في سبيل الدعوة من صنوف الذل وضروب الهوان ما لم يلقه إنسان، عمار الذي عاش مجاهدا ومات شهيدا وعطر صفحات التاريخ بمداد التضحية وسطور الفداء؛ عمار هذا يخاصمه خالد في حياة محمد ثم ينسى جهاده في سبيل الله وفضله في نصرة الإسلام، ولا يذكر له غير شيء واحد وهي يغلظ في القول ويشتد في الخصومة، وأن أباه (ياسر) كان عتيقا من عتقاء مخزوم، وهي حي من أحياء قريش كان من فتيانه خالد بن الوليد. . ومعنى هذا كله في منطق الأرستقراطية القرشية أن العبيد لا يحق لهم أن يرفعوا الرءوس أمام السادة!!
وينطلق عمار إلى الرسول ليحتكم إليه شاكيا ابن الوليد، ويقبل خالد في موكب من كبريائه القريشية ليوجه عمارا أمامالنبي يمثل ما واجهه به، فيصمت عمار ويطرق محمد. . وحين تنهى الأرستقراطية المتعالية من تهجمها على ابن ياسر وابن سمية، يرفع رأسه الرسول الكريم وينطق الإنسان العظيم، ينطق بعبارته الخالدة خلود الحق، الباقية بقاء العدل، الراسخة رسوخ اليقين:(من عادى عمارا فقد عادني)!. . قالها محمد ولم يزد، ولكن العبارة الموجزة كان فيها من الزجر، وكان فيها من الردع، وكان فيها من التأنيب والتثريب، وكان فيها من هذا كله ما أشعر خالدا بالخجل وما جعله يطلب الصفح من الرسول ويلتمس العفو من عمار!
ولكن هل رجع خالد عن طبعه وهل عدل عن سيرته بعد وفاة الرسول؟ إن سماحة الصديق بعد إنسانيته محمد، لم تستطع أن تخفف من حدة تلك الغلواء القرشية أو توقف من اندفاعها في طريق. . وها هو التاريخ ينقل إلينا موقف خالد بن الوليد من مالك بن نويرة حين قتله بغير حق ليتزوج من امرأته الحسناء. وها هو ينقل إلينا مرة أخرى كيف ثار عمر من أعماقه على هذا العمل الذي لا يقره العدل ولا يرضاه الضمير، وكيف خذله أبو بكر حين طلب إليه أن يعزل ابن الوليد حتى لا يكون قدوة سيئة لمن هم تحت إمرته من قواد المسلمين. لقد كان أبو بكر رجلاً سمح النفس لين العريكة موطأ الأكناف يعمل بهدي محمد، وما دام محمد قد وضع خالد في رأس الجيش ثقة بقدرته واعترفا بمكانة، فلا يحق لابنأبيقحافة أن يخرج على تلك الثقة الغالية فيعزل قائداً رضى عنه الرسول. . ويسكت ابن الخطاب على مضض ويسرها في نفسه إلى حين!