الذكاء. . ولكن امتياز عمر في هذا المجال يتمثل في نخطي المنظور إلى ما وراء المنظور، وانتقال الوعي من رؤية العيش إلى رؤية الفكر، واحتشاد العقل لتفسير الظواهر النفسية في ضوء ما يصحبها من أعمال وما يعقبها من أحداث!
هنا يتركز امتياز عمر؛ فهو يعرف عن قريش أمورا لا تخفى على أمثاله البصراء: يعرف عنها تلك الكبرياء الموروثة عن مكانتها في الجاهلية، ويعرف عنها هذا الصلف المكتسب من سيادتها في الإسلام، ومن هاتين الزاويتين قدر كل ما يمكن أن تتسم به الأرستقراطية القرشية من أسباب الزهو ومظاهر الخيلاء. لقد كان هذا الحي من أحياء العرب هو صاحب الكلمة الأولى قبل أن يظهر في الأفق محمد. كان له المجد الذي يأتيه من عزة الدنيا وزعامة الدين: فهو القائم على مناسك الحج يستأثر بها من العرب جميعاً، ويتسلط بها من دون العرب جميعاً، على القبائل كافة، ويستمد من هذه السلطة الدينية كل منابع القوة والرفعة والتفوق على غيره من الأحياء. وهو صاحب التجارة الضخمة والمال الوفير، وما يتبعهما من سعة الشهرة ونفاذ الكلمة ودافع السيطرة والغلبة والاقتحام. كان له هذا كله قبل أن تسطع أضواء الرسالة المحمدية في سماء الجزيرة العربية، وحين سطعت هذه الأضواء كان لقريش حق آخر لا يزاحمها فيه مزاحم ولا يجادلها فيه إنسان، وهو شرف الانتساب إلى محمد الزعيم وشرف القرابة من محمد الرسول. .
وحسبها من هاتين الناحيتين أن تغلو، وأن تطمع وتسرف في الطمع، وأن تطمح وتغرق في الطموح؛ ولا عجب إن تمادت الأرستقراطية القرشية فيما ورثته من معاني الصلف ومعالم الكبرياء، ولا عجبأيضاًإن مضت في طريقها جامحة لا يكاد يهذب من جموحها إنسانية محمد ولا سماحة الصديق!
نعم، لم يهذب من جموحها هذا الذي قلناه. وإننا لنرمز للأرستقراطية القرشية في عهد النبي وأبي بكر بمثل واحد هو خالد بن الوليد. . لقد كان خالد مثلاً صادقاً ووجهاً سافرا لتلك الأرستقراطية المتميزة بالألوان من الغطرسة والاستعلاء، ولعل ما كان يثير من غلوائه أنه كان واحدا من قريش، يقبس من أمجادها مجده ثم يضيف إليه مجد القائد المظفر لجيوش المسلمين. وكل هذا قد دفع لبن الوليد إلى شيء من الازدراء للغير وإلى أشياء من الزهو عليه، كأن يكون هذا المزدري رجلا كعمار بن ياسر على سبيل المثال. . عمار الذي لقي