للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أنا يا أم صانع الأمل الضا ... حك في صورة الغد المرموق!

وما تلك الأم التي يخاطبها الشاعر في هذا المجال؟ إنها الطبيعة. . . الطبيعة التي (حيرها إسراؤه) في ليالي الشوق والهيام، و (اقتحامه عليها الضحى) اقتحام الرعاة والصائدين، أو اقتحام تلك الآلهة المجنحة في أساطير الأولين!

وأعود بالذاكرة إلى شاعر آخر يتفق مع شاعرنا في هذا الفناء المطلق في هوى الطبيعة، الفناء الذي يربط بينها وبينه بتلك الخيوط الوجدانية التي تربط بين وفاء البنوة وحنان الأمومة. إنه الشاعر الإنكليزي (بيرن) في (تشايلد هارولد). . . لقد عشق كلاهما الطبيعة، وهام بها كما يهيم (الابن) البار بخير (أم) تسقيه من ثديها رحيق الحياة! وهاهو ذا (بيرن) يشير إلى هذا المعنى الكبير عندما يقول: (إن الطبيعة الحبيبة رغم اختلاف صورها ما زالت خير أم، فدعني أنقل عن قلبها العاري كل فكرة ملهمة، أنا أبر أطفالها بها وإن لم أكن إلى قلبها أحب البنين)!

لقد سجدت أفكار الشاعرين في محراب واحد، والتقت منهما الخواطر في صلاة واحدة، وهتفا في صوت واحد مولين وجهيهما شطر الطبيعة: أماه. . . وكلاهما صادق في حبه مخلص في هواه! وفي ميدان هذا الحب المتغلغل بين الجوانح يتفقان، ولكنهما في ميدان التعبير عنه والإشادة به يفترقان، تبعا لما بين (الصدق الفني) (والصدق الشعوري) من فروق، وسنعود إلى توضيح تلك الفروق في فصل مقبل من فصول هذه الدراسة النفسية. . . وسترى أن الطبيعة في شعر علي طه لم تكن خير أم فحسب، واكنها كانت أيضا خير أستاذ، وحسبك أن تستمع إليه في الصفحة الأربعين بعد المائة من (الملاح التائه) حيث يقول:

وأنا الشاعر الذي أفتن بالحسن وأذكت يد الحياة افتتانه

معهدي هذه المروج وأستاذي ربيع الطبيعة ألفيناه!

ونترك جو الطبيعة الأم إلى جو آخر؛ جو الأمل اليائس حين يعود إليه الشاعر من جديد ليطلق صرخته الخالدة، صرخة الفنان لخالق ينظر إلى صنع خياله فتصدمه الحقيقة البشعة، حين تنهار صروح الوهم الجميل تحت ضربات القدر أو تحت معاول الرياح. . . وستلمس أن الروافد الشعرية ما زالت تتصل بالنهر الأول وتسير في نفس الاتجاه محاذية

<<  <  ج:
ص:  >  >>