يفعل، لأنه إنسان. . . إنسان يتسع قلبه للدنيا بما فيها: من خير وشر، من فضيلة ورذيلة، من إيمان ونفاق، من وفاء وتنكر للوفاء. ويتسع للدنيا بمن فيها: سواء أكان فيها عمر بن الخطاب، أم عبد الله بن أبى، أكان فيها على زوج ابنته فاطمة، أم هبار بن الأسود قاتل أبنته زينب!. . . هذه هي اللحظة التي تتجلى فيها الندرة في الطبيعة الخلقية؛ (لحظة الضعف الإنساني) الذي يدفع الرسول الكريم إلى لون فذ من الصفح والرحمة؛ هناك حيث يأتي الصفح والرحمة على غير ترقب وانتظار. . . أن الرحمة كما سبق أن قلت حين تأتي في موضعها تكون سمة من سمات (الرجل العظيم)، ولكنها حين تأتي في غير موضعها كما حدث هنا تكون سمة من سمات (الإنسان العظيم)، وفي هذا النطاق تجد محمدا ولا تجد سواه! ويدفعنا ذكر هبار بن الأسود إلى أن نورد هنا شيئا من قصته، فيها لحظة أخرى من لحظات التفرد في عبقرية محمد الإنسانية. . . كانت زينب بنت الرسول في طريقها من مكة إلى المدينة، تلبي دعاء الشوق الأبوي المنبعث من قلب أبيها العظيم، وكان برفقتها نفر من أهله وصحبه ليكونوا لها ملاذا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين، ولكن قطاع الطريق ممن خرجوا على طاعة الرسول وكلمة السماء قد اعترضوا طريق القافلة المؤمنة والركب الآمن، لتتندى رمال الصحراء بعد قليل بأطهر دم سال على رمال الصحراء. لقد كان دم زينب أراقته رمية رمح من يد الجارم الآثم هبار بن الأسود؛ وحين يبلغ الأمر محمدا الوالد يتلقاه كما يتلقى الآباء مصارع الأنباء؛ بالحزن العميق والأسى الدفين، واللوعة التي تهز في القلب الكبير مكامن الألم والعذاب!. . . ويهدر محمد الزعيم دم هبار بأي مكان وجد، وبأي بلد نزل، وبأي حي من أحياء العرب أو العجم حل متخفيا أو سافرا بغير قناع. وينطلق أصحاب محمد في اثر ابن الأسود لا يتركون فجا من فجاج الصحراء ولا بقعة من بقاع الأرض، ولكنهم يعودون صفر الأيدي من ذلك المعتدي الأثيم. . . ويعود الوالد المفجوع إلى حزنه وأساه!
وفي يوم من الأيام التي لا تنسى في حياة الرسول يقتحم مجلسه رجل يخفي وجهه تحت لثامه؛ رجل لا يملك عينيه من الدمع، ولا قلبه من الوجل، ولا لسانه من طلب الصفح والمغفرة وينظر الإنسان العظيم إلى هذا الذي يستجير به ويفزع إليه فيجده قاتل ابنته هبار بن الأسود، يدفع إليه برمحه ليصنع به ما صنع بزينب جزاء ما اقترفت يداه!. . . وهنا