للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

العظيم) لا على (الإنسان العظيم). . . لأن الرجل الذي يشمل الناس بعطفه، ثم يفسر هذا العطف على أنه أكبر من أن يلقى الأمور لقاء الأنداد واعذر من أن يلقاها لقاء القضاة؛ هذا الرجل إذا وضع في الميزان صاحب طبيعة خلقية تنبع فيها الرحمة من منابع الرحمة النفسية تلك التي تنظر إلى كل شيء نظرة القمم إلى السفوح أو نظرة الكبير إلى الصغير. . . وفرق بين رحمة يفرضها على صاحبها التعاظم والكبرياء، ورحمة يفرضها التواضع الموصول الروابط بالإنسانية في أوسع آفاقها، وأرفع مزاياها.

أما قول الأستاذ العقاد بأن محمدا لا بد أن يكون إنسان اعظيما لأنه نبي عظيم، فهو في رأيي لا يثبت ولا يؤكد إنسانية محمد في كثير ولا قليل، لأن محمدا كان إنسان اعظيما بأدق معاني الكلمة قبل أن يبعث رسولا إلى الناس، والدليل على ذلك من تاريخ حياته مهيأ ميسور لكل من يلتمس الدليل. . . وذلك أمر لا ريب فيه ولا جدال!

بعد هذا نعود إلى المجال الذي يجب أن يبحث في رحابه عن محمد الإنسان، مجال اللحظة النادرة من لحظات (الضعف الإنساني) في حياته! هناك حيث تبدو الرحمة في غير موضعها لترفع الغطاء عن حقيقة هذا الإنسان العظيم:

مات عبد الله بن أبي، زعيم المنافقين في عهد الرسول، ورأس الفتنة التي كانت تنشر سمومها في صفوف المسلمين، عبد الله بن أبي الذي لم يسلم محمد من كيده وشره ولسانه، عبد الله بن أبي الذي نزل فيه وفيمن على شاكلته حكم السماء: (استغفر لهم؛ أولا تستغفر لهم أن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم). . .

مات هذا المنافق فصلى عليه محمد بعد موته، ثم تخلى لأهله عن قميصه ليكفنوه فيه! ثم يقول لعمر حين يعتب عليه عتابا بلغ حد التعنيف والإنكار: (أخر عني يا عمر، لو أعلم أني أن زدت على السبعين غفر له زدت)!. . . ثم يقول لمن يسأله لم دفعت إليه بقميصك وهو كافر: (أن قميصي لن يغنى عنه من الله شيئا، وإنني أؤمل من الله أن يدخل في الإسلام كثيرا بهذا السبب)!. . . ولم يلبث محمد إلا قليلا حتى سمع رأى السماء: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره)!

هذا هو محمد الإنسان متفردا في مجاله، متوحدا في فضائله وأعماله. . . لقد كان قادرا على قتل عبد الله بن أبى، ولكنه لم يفعل، وكان قادرا على أن يشيعه باللعنات ولكنه لم

<<  <  ج:
ص:  >  >>