يختفي محمد الوالد المفجوع في اعز ما يملك من دنياه، ول يبقى إلا محمد (الإنسان العظيم) في أكرم ذروى من ذرى (الضعف الإنساني)؛ هناك حين يخفض لهبار جناح الضعف من الرحمة. . . وهناك حيث يخرج هبار وقد غفر له. . . وهناك حيث يقف محمد متفردا في مجال الندرة الخلقية حين يعز التفرد على كل شبيه وكل نظير!
ولحظة ثالثة وما أكثرها من لحظات. . . لحظة قد يمر بها العجالى فلا يقفون أمامها طويلا ليتأملوها تأمل المغرقين في البحث عن جوهر النفوس ومعدن القلوب، حين يصهرها وهج الرحمة في بوتقة (الضعف الإنساني)؛ ضعف الأقوياء والقادرين!
طفل يموت. . . وما أكثر ما يموت الأطفال وغير الأطفال فيتجلد الآباء أمام شبح الموت ووقع المصيبة؛ لا يترقرق في مآقيهم دمع، ولا يعصف بقلوبهم حزن، ولا يذهب بصبرهم وقدة شعور ملتاع، وقد يكون المفجوعون أناسا لا حظ لهم من مقارعة الخطوب ولقاء الشدائد ومغالبة الأهوال! ولكن موت إبراهيم يهز في نفس محمد كوامن الشجن، ويهز في عيني محمد عصى الدموع، محمد الذي لم تهزه الدنيا بكل ما ادخرته له من محن يرفض منها الصبر وتخور معها العزيمة، محمد الذي توكأت على كتفيه عوادي الزمن يسير وراء إبراهيم متوكئا على كتفي عبد الرحمن بن عوف! ومعذور ابن عوف حين يستكثر البكاء على الرسول وينكر البكاء على الرسول؛ لقد كان ينظر إلى (الرجل العظيم) الذي بكى، ناسيا أن الذي بكى هو (الإنسان العظيم)!. . . ومعذور ابن عوف إذ نظر إلى محمد فوجده يبكي على غير ترقب وانتظار؛ لقد كان عهده به جلدا أمام المصائب، قهار للخطوب، ولكنه نسي لحظات (الضعف الإنساني) التي تكشف عن صدق الإنسانية حين تنتفض من جيشان العاطفة أمام اصعب الأمور وأيسر الأمور.
لحظات (الضعف الإنساني) هي وحدها الميزان الذي توزن به إنسانية محمد دون غيره من الناس. . . وهي هنا لحظات ثلاث، وإنها لقليل من كثير، وما أكثرها على قلتها في حاب الشعور والوجدان.