محمد الإنسان النادر لا يوزن إلا بميزان يبحث عن الندرة الخلقية التي تضعه وحده في كفة، وتضع في الكفة الأخرى ما شاء لها أن تضع من الناس. . . ولن يتهيأ للباحثين أن ينفذوا إلى أغوار حقيقته الإنسانية، إلا إذا وقفوا طويلا أمام تلك المشاهد الذي تعرض لهم نماذج من حياة ذلك القلب العظيم؛ نماذج لا تتعدد منها الصور وتتكرر الألوان.
سأنظر إلى محمد الإنسان على ضوء اللحظة النادرة من لحظات حياته؛ تلك التي قلت عنها أنه يقف فيها متفردا حين يعز التفرد على كل شبيه وكل نظير. لحظات (الضعف الإنساني) في حياة الرسول هي وحدها دون غيرها التي تهدي السالكين إلى معالم الطريق؛ طريق الوصول إلى حقيقته الإنسانية. . . وانه لضعف الأقوياء والقادرين حين يشرفون على الدنيا من أعلى قمة من قمم الأخلاق، ليخفضوا للناس جناح الضعف من الرحمة.
هذا (الضعف الإنساني) في حياة محمد ناتج من كونه إنسان اعظيما قبل أن يكون نبيا عظيما يحمل مشعل الهداية إلى جيل من بعده أجيال. . . أن الرحمة في موضعها أمر لا غرابة فيه؛ ولكن الرحمة في غير موضعها أمر تكتنفه الغرابة من كل نواحيه. وهكذا كان محمد: فهو في موقف الرحمة حيث تطلب الرحمة (رجل عظيم) ولكنه في موقف الرحمة حيث لا ينتظرها أحد (إنسان عظيم). وهذه هي اللحظة النادرة التي لا يشاركه أحد فيها من الناس، لحظة (الضعف الإنساني) المنبعث من غلبة الإنسانية على طبيعته وتغلغلها في كل خليقة من خلائقه! وهي التي يسميها الباحثون رحمة دون أن يفرقوا بينها وبين الرحمة التي يقدم عليها غير العظيم أو يقدم عليها العظيم وهو غير إنسان. يقول الأستاذ العقاد في معرض الحديث عن إنسانية محمد:(النبي لا يكون رجلا عظيما وكفى. بل لابد أن يكون إنسان اعظيما فيه كل خصائص الإنسانية الشاملة التي تعم الرجولة والأنوثة والأقوياء والضعفاء، وتهيؤه للفهم عن كل جانب من جوانب بني آدم. فيكون عارفا بها وان لم يكن متصفا بها، قادرا على علاجها وان لم يكن معرضا لأدوائها، شاملا لها بعطفه وان كان ينكرها بفكره وبروحه؛ لأنه أكبر من أن يلقاها لقاء الأنداد، واعذر من أن يلقاها لقاء القضاة، وأخبر بسعة آفاق الدنيا التي تتسع لكل شيء بين الأرض والسماء؛ لأنه يملك مثلها آفاقا كآفاقها، هي آفاق الروح).
هذه الكلمات التي يسوقها الأستاذ العقاد عن محمد الإنسان تنطبق كل الانطباق على (الرجل