الخديوي، وقطع عليه الصلة بالخلافة العثمانية، وساعدته الأقدار فحرمت حافظاً أكبر عطف بموت الأستاذ الإمام، فلم يجد حافظ أمامه إلا الشعب، فعاش للشعب وبالشعب.
تلك كانت طبيعة شوقي، أما حافظ فكان أوفي منه إنسانية وأسمح طبعاً، لقد كان يحمل بين جنبيه قلباً يود لو يسع فيه كل محروم ومظلوم، ويود لو يستطيع أن يوزعه على الجميع، ثم لا يبقى له منه شيئاً. . .
أذكر أني كنت معه في مرة أنا والمرحوم صديقنا الأستاذ إبراهيم الجزار الممثل، وكان إبراهيم يجيد إلقاء الشعر كأروع ما يكون، فطلب منه حافظ أن يلقى عليه بعض ما يحفظ، فأخذ إبراهيم يلقي عليه قصيدته التي قالها في مبايعة شوقي بالإمارة، وأخذ حافظ يهتز مجاوباً لنغمات الإلقاء ومقاطعه، وبعد الإنشاد أخذنا نسأله عن رأيه الحقيقي في شعر شوقي، فما تكلم عن شوقي الشاعر، ولكنه أخذ يتكلم عن شوقي الرجل فقال:(إن شوقي رجل نذل)، وقص علينا كيف جاء المرحوم الشيخ عبد المحسن الكاظمي إلى مصر غريباً طريداً، فطمع أن يكون له في رحاب الخديوي متسعاً، ولكن شوقي خشي منافسة الشاعر العراقي، فسد عليه الباب وقطع عليه كل رجاء، وفكر في هذا بأخوة الأدب، وأخوة العرب، وبالواجب نحو رجل شطت به الدار، ووجد السيد عبد المحسن في الأستاذ الإمام حمى، ولكن الحمام لم يمهل الأستاذ الإمام. . . وهنا تهدج صوت حافظ، ودمعت عيناه، ولم يستطع أن يتم الحديث. . .
لهذا كانت نزوات حافظ تثور على شوقي، ولهذا كان يناله بقارض الكلم أحياناً في شعره وكثيراً في مجلسه، ولكنه رحمه الّله كان يحب خليل مطران كل الحب، ويثنى عليه كل الثناء، ذلك لأنهما كانا متوافقان إنسانية وأريحية، كما كان يثنى على أحمد محرم وأحمد نسيم ويذكرهم بالخير، فهل كان يبلغ به التهافت بعد ذلك أن يجحد شاعرية شوقي بجانب هؤلاء. . .
كلا! إن حافظاً لم يجحد شوقي من ناحية شاعريته، ولكنه - كما قلنا - كان يجحده من ناحية إنسانيته. . .
نفي شوقي عن مصر، فشمت فيه أولئك الذين كان يقف في طريقهم. أما حافظ، فقد جزع عليه غاية الجزع، واشتد الحنين بشوقي إلى النيل. . . فأرسل بهذه الزفرة الحارة: