وسهرت مع الطلاب في كتابتها وتلوينها، وأنا الذي لم يمسك من قبل (ريشة) قط.
ولم أنم تلك الليلة بل كنت أنتقل من مكان إلى مكان حتى إذا أصبحنا بكرت إلى ساحة الاجتماع، وهي الساحة الفيحاء بين دار الكتب والمتوسطة الغربية ودار المعلمين العليا فوجدتها تعج بالطلاب من كل مدرسة، وكلهم بلباس الفتوة لا يمتاز طالب منهم من طالب، فكيف أجمع طلاب مدرستي وأصفهم؟
وطفقت أصرخ ولا سامع ولا مجيب ومن يسمع النداء في هذا المحشر الذي جمع فيه عشرة آلاف طالب متحمس كلهم يصيح ويتكلم؟ ثم ألهمني الله فكرة فدعوت عريفاً من عرفاء الطلبة، ميزته من شرائط الفضة على ذراعه، فانتصب أمامي، وحيا ووقف وقفة عسكرية ينتظر مني الأمر. فقلت له: صف هؤلاء الطلاب. فأعاد التحية وقال: حاضر. وانصرف، وأنا أعجب منه كيف يقول:(حاضر)، وقد عجزت من قبله عن ذلك ويعجز عشرة من أمثالي! وإذا به يدعو طالباً معه بوق، فينفخ به، فتقع المعجزة، ويعم الصمت، كأن المتوكل قد طلع بضوء وجهه. . .
. . . . . . . . . فانجلت تلك الدجى وإنجاب ذاك العثير ثم ينفخ فيه أخرى، فإذا هذه الخلائق كلها، تغدو صفاً طويلاً صامتاً مرتباً. وقد مني إخواننا فقلت فيهم خطبة. ومشينا، حتى إذا بلغنا أوائل ميدان باب المعظم، قابلتنا مواكب الشعب الهائلة آتية من حي الفضل وتلك الأرجاء، فتداني الجبلان، والتقى البحران، فعادا بحراً واحداً، تلتطم أمواجه، وتعلو أثباجه، بحراً من الناس ملأ باب المعظم وأفواه الشوارع المفضية إليه، والأرض البراح من هنا ومن هناك. وقام الخطباء في كل مكان فلن يبق في اللغة كلمة تمجيد إلا قيلت للشام، ولا لفظة تحقير إلا سيقت لفرنسا، ولا جملة تعبر عن القوة والإيمان والاستعداد إلا ألقيت على الناس، ولا شيء يهز القلب ويحرك العزائم إلا كان ثم مشى هذا البحر. وإلى أين تمشي البحار؟ والشوارع قد سدت بالناس، والناس على الأرصفة وفي الشبابيك وعلى الأسطحة. وفي كل مكان هتاف ونداء، فالطلاب ينشدون، والعامة يحدون والنساء يزغردن، والتكبير والتهليل، والمواكب تمتد، والخلائق تتوافد، حتى حلت بغداد كلها في شارع الرشيد من باب المعظم إلى باب الشرقي، وكان يوم ما رأيت له مثيلا قط.