فداست السيارة على مسمار، فانفجرت عجلتها، وكان لها مثل صوت البارود، فقطع إخواننا النشيد، وطاروا على وجوههم فلم تمر ثوان معدودات، حتى صار أشدهم حماسة على بعد خمسين متراً من (مكان الخطر)، هؤلاء الذين كانوا يمشون كمشية حرس هتلر الخاص ولا يهابون الزمان. . .
فقلت: يا قطب، أتذكر ليلتنا تلك والرشاشات؟. . . ألم أقل لك: لقد تغيرت الدنيا؟!
ووجدنا الأماكن التي كنا نسترح فيها، والتي كانت من طهرها كأنها معابد الجمال في الأرض، صارت قهوات وخمارات ما فيها لأمثالنا مكان، فكنا نبيت على الصخر، وعلى ظهور الجبال، حتى بلغنا (بلودان)، فمسحنا أعيننا وحسبنا أننا في حلم. . . أهذه بلودان؟ هذه المدينة العامرة، ذات الشوارع والقصور؟ أهؤلاء الشباب الذين يمشون متبخترين بأكمامهم القصيرة، وشعرهم المرجل المدهن المعطر، ووجوههم المصقولة، أهؤلاء هم رجال بلودان؟ وهؤلاء النساء الكاسيات العاريات، المائلات المميلات، أهن نساء بلودان؟!
وصارت ثيابنا وهيئتنا شهرة لنا، وصرنا ضحكت القوم، ولم نجد مكاننا نحط فيه، فسألنا فدلونا على الفندق
وجئنا الفندق الذي شادته الحكومة بأموال هذه الأمة المسلمة، لننزل فيه بالأجرة لا صدقة ولا إحساناً، وكان الفندق الضخم كأنه شعلة واحدة من النور، وكان في تلك الليلة فرقة راقصة بولونية. . . ولعلها يهودية. . . وقد فتحت قاعات القمار لكل داخل، وصفت كؤوس الخمر لكل شارب، وأزينت الغانيات لكل طالب، وانتشر اللصوص والنشالون وهم في ثمين الحلل وغالي الثياب، وعبث الوزراء في السهرة عبث الصبيان، ورقص القضاة مع المجرمين، وعكف المعلمون على موائد القمار، وأسلم كل زوجته لمن يراقصها ليضم أخرى بين ذراعيه، وتربع إبليس على المسرح يضحك فرحاً. . .!
ولما جئنا ندخل الفندق بثيابنا الوطنية، ثياب الأمة التي بنى بأموالها هذا الفندق، منعونا وأخرجونا!
لقد أضعنا المسجد والصلاة والأمانة والطهر والقوة حين أضعنا تلك القرية الحقيرة. . . لقد كانت جاهلة ولكنها كانت فاضلة، وكانت فقيرة ولكنها كانت شريفة، وكانت بعيدة عن