ورأيت الفلاحين يتوافدون على القطب: هذا يأتيه بعشر تفاحات، وهذا يهدي إليه قبضة من التين اليابس أو الزبيب، وهذا يحمل إليه كأساً من اللبن، فكان يقبل منهم ويثيبهم عليه، سكا كر ملونة، أو قضامةً على السكر، أو لوح صابون، ورأيت من يأتيه بشيء يأخذ عوضه ثم يعقد لا يذهب، فلما تكامل عددهم أخرج الشيخ كتاباً من خرجه، وجعل يقرأ عليهم ويعظهم، فتسيل دموعهم من خشية الله. . .
ومرت السنون على هذه الرحلة حتى نيفت على العشرين، وقطعتني الحياة وهمومها، وأسفاري وعملي في غير ديار الشام، عن هذه الرحلات، وباعدت ما بيني وبين (بلودان) فلم أراها بعد تلك الزورة. . .
. . . حتى إذا كان هذا الربيع المنصرم، لقيت (القطب)، فقال لي: أتذكر تلك الرحلة؟
قلت: نعم، أذكرها ولا أنساها
قال: هل لك في مثلها؟
قلت: قد تغيرت الدنيا يا قطب، ولم أستطيع أن أمشي، إن الناس يعرفوني. . .
قال: أمشي. . .
وشد (الميم) ومد (الشين) فأذكرني ليلة التكية، فشاقتني الذكرى فقبلت ما عرض علي. . .
. . . ولبسنا مثل ثيابنا تلك، وجمعنا من بقي من أصحابنا، ومشينا، فإذا الطرق التي كانت كأنها من جمالها معابر الفردوس ومسالك الجنان، والتي كنا نسير فيها فلا نلقى إلا الفلاحين يكرموننا ويحترموننا، صارت شوارع واسعة لا تنقطع السيارات فيها ساعة، وكلما مرت بنا سيارة أبطأت في سيرها ونظر من فيها إلينا، كما ينظرون إلى (عجائب المخلوقات)، ثم ولت عنا، ونحن نسمع منها ضحكات النساء الخليعات علينا، وضحكات شباب هم مثل النساء، وقذفت في وجوهنا غبارها ودخانها، وما ذنبنا إلا أننا نمشي على أقدامنا في حر الشمس. . . حتى أن الكشافين كانوا يمرون بنا في سياراتهم ويضحكون هم أيضاً علينا
ورأينا مرة فرقة كشفية تسير بجانب سيارتها الفارغة مشية عسكرية موزونة كمشية حرس هتلر الخاص تماما: شمال - يمين. واحد - أثنين. وهم ينشدون: