وأحسسنا نحن فقمنا، وعرف القوم القطب، فأقبلوا عليه يعاتبونه على ما صنع بهم. . .
ونهضنا كما ينهض الجمل نشط من عقال، وقد وجدنا لهذه النومة القصيرة على الحصير القاسي بعد التعب الشديد ما لا نجده لنوم ليلة كاملة في البلد على السرير، ووقفنا للصلاة، وكان قد اجتمع فيها أهل البلد كلهم لا يتخلف عن الصلاة أحد، وما أهل البلد؟ إنهم بشيوخهم وكهولهم وشبابهم لا يعدون الأربعين. . .
فلما سلمنا أخذوا يتسابقون إلى دعوتنا، فقال القطب:
- القاعدة!
وكانت القاعدة أنه لا يستضيف أحداً ولا يدخل داراً، ولا يرزأ أحداً شيئاً، وإنما يقصد المنازِهَ والعيون، وكانوا يعرفون هذه القاعدة فتركوه، فذهب بنا إلى (عين أبي زاد). . .
ومررنا على القرية فإذا هي قرية صغيرة خاملة فقيرة، أهلوها على الفطرة النقية، لا يعرفون الحسد ولا الغش ولا السرقة، ولم يسمعوا بالقمار ولا الخمر، وليس فيهم من يقرب الزنا أو يفكر فيه. والقرية تطل على منظر من أعجب مناظر الدنيا، فهي على رأس جبل تقوم في أسفله (الزبداني)، وهي القصبة، وفيها دار الحكومة والقائمقام والقاضي وقائد الدرك، وأمامها سهل الزبداني كله إلى منبع (بردى)، وعن يمنها وادي (سرغايا)، وعن شمالها بقين ومضايا، ومن أمامها مدخل وادي بردى. . . وفيها المياه العذبة، والعيون الصافية، وفيها العنب والتين والتفاح الذي لا نظير له، ولكنها منقطعة عن الدنيا لا يكاد يصعد إليها أحد، لعلوها وضيق الطريق وصعوبته، وقلة الدواب، وكان وجه القرية الشيخ سليمان الرنكوسي وهو رجل ذو مزايا ومناقب، فمن مناقبه أنه إمام المسجد، وخطيب الجمعة، ومعلم الأولاد، وكاتب الرسائل والعرائض، وبائع القماش، ومصلح بوابير الكاز، ومقسم المواريث، ومسجل عقود البيع، وقاضي البلد. . . فكأن أهل القرية أسرة واحدة تقية فاضلة، والشيخ سليمان هو ربها!
وبلغنا العين، ونصبنا الخيمة التي كنا نحمل أجزائها مفككة، وأوقدنا النار ونصبنا القدر، وفتحنا الحقائب فأخرجنا اللحم والخضر، فطبخنا وأكلنا وشربنا الشاي الأخضر، ثم جلسنا أمام العين جلسة لو تعبنا أضعاف ذلك التعب لكانت مستحقة له، معوضة عنه. . .