فلما رآنا ورأى هذه الهيئات العجيبة، وهذه الأحمال التي كنا نحملها والتي يعجز عن حملها ثلاثة بغال. . رأى قوماً ليسوا من الثوار ولا من أهل القتال، فماذا يكون هؤلاء، وماذا يدفعهم إلى السير في هذه البرية نصف الليل؟
وسألنا - وكنا نعرف من الفرنسية كلمات - فتكلمنا بها، وكنا نكرر كلمة (بروموناد) أي نزهة. . . فلم يشك الرجل أننا مجانين، وأدخلنا المخفر وجاء بترجمان فكلمنا، فلما عرف قصتنا كاد يقضى عجباً، وسمح لنا بالمسير. . .
قال القطب: إلى أين نسير؟ إننا نريد أن ننام هنا!
قال الضابط: هذه منطقة عسكرية. ممنوع!
قال: إذن أعطونا طعاماً، وقطرة لعيني فإن بها رمداً، وعلبة كبريت. فأعطوه ما يريد
فلما خرجنا، قال القطب:
- أرأيتم كيف غزوناهم وأخذنا طعامهم؟ آه. لو كان معنا سلاح لذبحنا الكلاب. . . والآن. لم يبق إلا أن نمشي إلى (بلودان)
وكانت بلودان في رأس جبل لا نستطيع تسلقه في أقل من ساعتين، وبيننا وبين الجبل مسيرة ساعة، والإعياء والنعس بالغان منا، ولكن لابد مما ليس منه بد. . .
ولما بلغنا بلودان كان السحر قد أقترب، ولم يكن يحسن أن نقرع باب أحد من الفلاحين في تلك الساعة، فقصدنا المسجد وجرب القطب مفاتيحه في الباب فانفتح لنا، فاستلقينا من التعب على الأرض، ووضع كل رجليه تلقاء رجلي الآخر، والتففنا ببسط الجامع ونمنا. . .
ولما جاء المؤذن لأذان الفجر، فتح الباب ودخل يتعوذ، وأوقد عود الكبريت، ونظر فرأى ما هاله، وما قف له شعره، رأى جنا نائمين كل جني طوله خمسة أمتار وله رأسان رأس من هنا ورأس من هناك، ووقف المسكين مكانه وقد ألصقه الرعب به فما يملك أن يريم، وجاء بعد قليل رجل آخر فقال له: