راضياً ما يجد، ويلبس ما يلقى، ويعرف ربع أهل دمشق ويعرفه نصفهم. ومن مزاياه أنه أقدر الناس على السير، حتى إنه ليستطيع أن يقطع عمره كله بالمشي. . .
. . . وكان قد خرج بنا فجر هذا اليوم من دمشق إلى الربوة فدمر، فالهامة، فالجديدة، فبسيمة، فالفيجة - أسماء رياض من عرفها من قراء الرسالة علم أن الله لم يخلق في الأرض أجمل منها، ومن لم يعرفها فيحفظها في ذاكرته، فلعل الله يكتب له السعادة يوماً بزيارة دمشق فيسأل عنها حتى يراها
فلما بلغنا الفيجة وهي على عشرين كيلا من دمشق، وفيها العين العظيمة التي تسقي دمشق ماء عذباً صفاه الله ونقاه، فلم تصفه آلة ولا مصفاة، أقمنا فيها إلى المساء، فلما أذن المغرب صليناه وسرنا على اسم الله، فمررنا على دير قانون وسوق وادي بردى وتلك القرى، نسلك قرارة الوادي العميق تارة، ونركب الجبل تارة أخرى، وكنا أقوياء في أول الطريق، نسير بجد ونشاط، وكان القمر الوليد يضوئ لنا الطريق، فلما مضت ثلاث ساعات من الليل غاب القمر، وعم الظلام، ونال منا التعب، فما قاربنا التكية حتى كدنا نسقط إعياء. . .
وشد قرب التكية أعصابنا، فغنينا أغنية وطنية معروفة، فلم نسمع إلا صوت المتراليوز
فقال القطب: خاف منا الكلاب، غنوا يا أولاد!
وكانت الثورة السورية قائمة، وهؤلاء (الكلاب. . .) إنما هم الفرنسيون ولهم مركز قوي في التكية لحماية معامل شركة الكهرباء والترام، وكانوا يقتلون في تلك الأيام البريء وهو في داره، فكيف بمن يقدم عليهم وسط الليل منشداً الأناشيد الوطنية؟
واستمر صوت الرشاشات ونحن مستمرون في إنشادنا وسيرنا فرحين بهذه التسلية الجديدة التي أنقذتنا من ملال الطريق. وأشهد أن الفرنسيين مجانين، ولكنهم عقلوا هذه المرة، لأنهم وجدوا من هو أكثر جنوناً منهم، وهو نحن. . فوقفوا الضرب، وأقبل علينا واحد منهم، فأنار مصباحه ونظر إلينا. . .
وكان ركبنا مؤلفا من القطب، والشيخ شريف. . . وهو مدير مدرسة أهلية، وسلطان الشاي الأخضر في دمشق، ومؤلف أناشيد، وهو أسرع الناس غضباً وأسرعهم رضا، يشتعل كالبنزين وينطفئ كالبرق، والشيخ طه. . . وهو معلم ولكنه كان ضابطاً في الجيش قبل أن يكون معلماً، وأنا، وسبعة من تلاميذ الشيخ شريف. . .