ولو تأملنا قليلا لوجدنا الجميع هنا صادقين في وصف ما عرفوا، ولكنهم مقصرون عن الإحاطة بالحقيقة مبلغ تقصيرهم في وسائل التعرف إليها؛ ولو أنهم عاودوا اللمس المستوعب لأعضاء الفيل، لتسنى لهم إذا أن يعرفوا أقصى ما تهيئه لهم وسائلهم المحدودة من اللمس، وهكذا الشأن في كل حاسة يستخدمها الإنسان في التعرف إلى ما يحيط به من حقائق الأشياء. . .
. . . ونعود إلى النظريات العقلية فنقول إن إصرار الإنسان على الخطأ في فكرة ما، ليس معناه العناد أو المكابرة دائما؛ وإنما قد يصدر ذلك - وهو الأكثر - عن إيمان بالرأي عميق وثقة بصحة التفكير ثابتة. ولا يلام الإنسان على هذا الإصرار إلا بقدر ما يصده ذلك عن قبول النقاش أو يحول بينه وبين فحص أراء الغير بالعقل المجرد.
ومما يزيد المشكلة تعقيدا أن كل فكرة خاطئة لا تخلو من ناحية صواب - ولو ضئيلة - يستمسك بها صاحبها؛ وهي التعليل الحق لهذا الإصرار الذي نشاهده منه، ما دمنا على ثقة من عقله ومن خلقه جميعاً. وفي الواقع إن الخير المحض أو الشر المحض شيئان منعدمان في هذا الوجود؛ وكذلك الصواب والخطأ. . . لا يخلو أحدهما من شائبة ولو يسيرة تلحقه من الآخر. ولقد يتفق أكثر الأدباء على أن المعري كان من أزهد الناس في الحياة، وأعزفهم عن طلب الشهرة والتماس الجاه والنبالة فيها، ثم يأتي من يخالفهم في ذلك ويقول: بل الذي عندي أن الرجل كان من أكلف الناس بالجاه، وأبعدهم همة في طلب المجد والتماس نباهة الشأن. . . أليس هو الشاعر الذي يقول:
ذَرِ الدنيا إذا لم تحظَ منها ... وكن فيها كثيرا أو قليلا
واصبحْ واحدَ الرجلين: إما ... مليكاً في المعاشر أو أبيلا
ولو جَرَت النباهةُ من طريق الْ ... خمولِ إلىَّ لاخترتُ الخمولا
فها هو ذا قد ترك دنيا الناس لأنه فقد الحظوة فيها، ولكنه ملك دنيا أعظم من الجاه العريض والشهرة المدوية. . . دنيا لم يمتلكها من الناس إلا القليل. ولقد عجز عن أن يكون ملكاً نابه الذكر، فكان أبيلا - أو راهباً - أنبه من سائر الملوك ذكراً، وأخلد منهم على الأيام اسماً. . .