إنه اتخذ من الخمول سبيلاً إلى النباهة كما قال، فأين وجه الزهادة في كل هذا؟
تلك حجج تتقارع ولكل منها سنده من دليل وعماده من برهان؛ ولكن التسليم بضرورة التفاهم وتبادل الإقناع والاقتناع أهم من كل هذا، وأعظم جدوى في تعرف الحقائق على اختلافها
ولنعرض هنا نموذجاً طريفاً نرى فيه كيف تلتبس الحقائق الواضحة على بعض العقول الحصيفة، حتى يكشف النقاش عن جوهرها؛ فلا يبقى ثمة إلا التسليم والاقتناع، متى خلصت النية وكان الحق هو الهدف المقصود والغاية المبتغاة
قالوا: حضر الوجيه النحوي بدار الكتب التي برباط المأمونية، وخازنها يومئذ أبو المعالي أحمد بن هبة الله. فجرى حديث المعري فذمه الخازن، وقال: كان عندي في الخزانة كتاب من تصانيه فغسلته. فقال له الوجيه: وأي شيء كان هذا الكتاب؟ قال: كان كتاب (نقض القرآن) فقال له: أخطأت في غسله! فعجب الجماعة منه وتغامزوا عليه؛ واستشاط أبن هبة الله وقال له: مثلك ينهى عن مثل هذا؟! قال: نعم، لا يخلو أن يكون هذا الكتاب مثل القرآن أو خيراً منه أو دونه. فإن كان مثله أو خيراً منه - وحاش لله أن يكون ذلك - فلا يجب أن يفرط في مثله. وإن كان دونه وذلك ما لاشك فيه، فتركه معجزة للقرآن فلا يجب التفريط فيه. فاستحسن الجماعة قوله، ووافقه أبن هبة الله على الحق وسكت
هذه وجهة نظر سديدة أبداها الوجيه، وقد صحبها اعتراف بالحق أعظم منها سداداً، وأجمل في النفوس موقعاً. لكن أين من يراجع اليوم نفسه مثل هذه المراجعة، ويقيس رأيه برأي غيره في مثل هذه الدقة؛ ثم يقتنع شاكراً إن أخطأ، ويقنع متلطفاً إن أصاب. وهو في كل ذلك يأبى على نفسه اللجاج، ويأنف لها من المكابرة، ويتكره أن يكون كمن أنشد فيه الجاحظ قول الشاعر:
وأخلفُ من بول البعير فانه ... إذا قيل للإقبال أقبلَ، أدبرا!
خلافاً علينا من فَيالةِ رأيه ... كما قيل قبل اليوم: خالف فتُذكرا