ففي هذا الكلام معنى مما خاطب به رسول الله شهداء البقيع فقد هنأهم بما أصبحوا فيه مما أصبح الناس فيه. . . وذكر إقبال الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها. . . وهو بعد صلاته على شهداء أحد يخطب الناس فلا يخشى عليهم أن يشركوا، بل يخشى عليهم الدنيا أن ينافسوا فيها!
كان الرسول عند زوجة ميمونة عندما بدأ بالرسول شكوه الذي توفى فيه، فذهب إلى زوجه عائشة، وكأنها رأت أثر ما به من وعكة، فقالت مداعبة: وا رأساه! فتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال مداعباً: وددت أن ذلك يكون وأنا حي فأصلي عليك وأدفنك. فقالت عائشة غيري: أو كأنك تحب ذلك؟ لكأني أراك في ذلك اليوم معرساً ببعض نسائك في بيتي. فتبسم النبي أيضاً، وتتام به وجعه وهو يدور على نسائه حتى استعز به وهو في بيت ميمونة، فدعا نساءه فأستأذنهن أن يمرض في بيتي فأذن له فخرج بين رجلين من أهله أحدهما الفضل بن العباس ورجل آخر تخط قدماء الأرض عاصباً رأسه حتى دخل بيتي.
وقد سئل ابن عباس عن هذا الرجل الآخر من هو فقال: إنه علي بن أبي طالب ولكنها كانت لا تقدر على أن تذكره بخير وهي تستطيع!
وذهب الرسول إلى الفضل بن عباس فأخذ بيده حتى جلس على المنبر وهو معصوب الرأس ثم قال: نادٍ في الناس، فاجتمعوا إليه ثم قال: أما بعد أيها الناس فإني احمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وإنه قد دنا مني حقوق من بين أظهركم، فمن كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه، ألا وإن الشحناء ليست من طبعي ولا من شأني، ألا وإن أحبكم إلي من اخذ مني حقاً إن كان له، أو حللني، فلقيت الله وأنا أطيب النفس، وقد أرى أن هذا غير مغنٍ عني حتى أقوم فيكم مرارا
أي والله يا رفاق، القلم والقلب والدموع، إن رسول الله وفخر الكائنات يخشى أن يلقى الله ولأحد عنده حق لم يأخذه منه، فهو يعطي ظهره لمن يرى أن يستقيد منه، وهو يريد أن يحلله من لا يريد أن يأخذ حقه حتى يلقى الله وهو أطيب النفس. ثم هو يرى أن ذلك كله غير مغن من الله شيئاً. . . فوا رحمتاه لنا نحن يا رفاق!
ثم صلى النبي الظهر وعاد على المنبر ليحاسبه الناس، فقال له واحد منهم: يا رسول الله إن لي عندك ثلاثة دراهم، فأمر النبي الفضل أن يعطيه إياها؛ ثم قال النبي: يا أيها الناس