ظهرت الإشراط قبل هذا كله. . . لم يكن النبي قد حج قط، فأمر هذه السنة أن يحج ليبين للناس مناسكهم؛ وكان يعرض القرآن على صاحبه جبريل مرة واحدة كل سنة في رمضان، لكنه عرضه عليه مرتين في هذه السنة؛ وكان يعتكف العشرة الأواخر من رمضان لا يكلم الناس إلا رمزاً، فلأمر ما اعتكف عشرين هذا العام؟ أليس لأنه العام الأخير؟
ويحك أيها الرجل محمد بن سيرين فيم رجوت أن تكون قراءتك هي العرضة الأخيرة؟ أكان قلبك يحدثك كما حدث ابن عباس قلبه حينما نزلت: إذا جاء نصر الله والفتح، فقال: داع من الله ووداع من الدنيا!. . . أجل. . . فهي العلامة التي حدث الرسول عنها عائشة، قال: إن ربي كان اخبرني بعلامة في أمتي فقال إذا رأيتها فسبح بحمد ربك واستغفره، فقد رأيتها. . . وقرأ إذا جاء نصر الله. . .
لله هذا المدلج إلى البقيع متكئا على ذراع مولاه أبي مويهبة حتى إذا بلغ مراقد السابقين إلى الجنة، الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه، توقف قليلاً ثم قال يكلمهم: السلام عليكم أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى. . . ثم أقبل على مولاه يقول له: يا أبا مويهبة إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، خيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة فاخترت لقاء ربي والجنة؛ فيقول أبو مويهية: بأبي أنت وأمي فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، فيقول له فخر الكائنات: لا والله يا أبا مويهبة لقد اخترت لقاء ربي والجنة!
ثم يأخذ في الاستغفار للنائمين في التراب، أستغفر الله، بل للنائمين في روضات الجنة، أولئك الذين استجابوا لنداء السماء الذي يسره الله بلسان محمد! فيا للوداع ويا للوفاء يا رسول الله!
أهذا فقط؟ كلا يا رفاق، القلم والقلب والدموع! فقد حدث عقبة بن عامر الجهني قال: إن رسول الله صلى على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات ثم اطلع المنبر فقال: إني بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض وإني لأنظر إليه وأنا في مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها