وليس في حياة ابن خلدون في هذه الفترة التي قضاها بمصر ما يستحق الذكر سوى سعيه إلى عقد الصلات بين البلاطين القاهرية والمغربي، فهو يصف المهاداة بين صلاح الدين، وبني عبد المؤمن من ملوك المغرب، وبين الناصر قلاوون وملوك بني مرين، ويصف الهدايا المصرية والمغربية فبدأ سلطان تونس بإهداء خيل مسومة وسروج ذهبية
لبث ابن خلدون بعيداً عن منصب القضاء أربعة عشر عاماً وكان بالفيوم يعني بقمح ضيعته التي يستحقها من الأوقاف، فاستدعاه السلطان إلى القضاء، فلما استقرت الأمور بمصر استأذن في السفر إلى بيت المقدس فإذن له؛ فشهد المسجدِ الأقصى وقبر الخليل وبعض الآثار ثم عاد من رحلته إلى القاهرة. ثم وردت الأنباء بانقضاض (تيمورلنك) بجيوشه على الشام واستيلائه على حلب في مناظر هائلة من السفك والتخريب فروعت مصر، وهرع (الناصر فرج) بجيوشه لملاقاة الفاتح التتري ورده، وقد اشتبك جنود مصر بجند الفاتح في ظاهر دمشق في معارك شديدة ثبت فيها المصريون، وبدأت مفاوضات الصلح بينهما، ولكن خلافاً دَبّ في معسكر المصريين، ومؤامرة دبرت لخلع السلطان؛ فترك السلطان دمشق لمصيرها ورجع إلى القاهرة. وهنا تتجلى لنا نزعة مؤرخنا الفيلسوف في مغامراته، فقد رأى أن يعتصم بالجرأة وأن يغادر جماعة المترددين إلى معسكر الفاتح فيستأمنه على نفيه ومصيره، ويصف لنا ابن خلدون ذلك اللقاء بقوله:(ودخلت عليه (المراد تيمورلنك) بخيمة جلوسه متكئاً على موقفه، وصحاف الطعام تمر بين يديه، فلما دخلت عليه انحنيت بالسلام، وأومأت إيماءة الخضوع فرفع رأسه، ومد يده إلى فقبلتها)، وتحدث الفاتح طويلاً إلى المؤرخ، وحدثه المؤرخ بأنه كان سمع به، ويتمنى لقاءه منذ أربعين سنة، واستطاع ابن خلدون أن يقنع الرؤساء بالتسليم، وفتحت دمشق أبوابها للفاتح فنحت من بطشه. وقد قدم ابن خلدون إلى الفاتح هدية هي: مصحف رائق، وسجادة أنيقة، ونسخة من البردة وأربع علب من حلاوة مصر الفاخرة. فوضع (تيورلنك) المصحف فوق رأسه ثم سأله عن البردة، وذاق من الحلوى ووزع منها على الحاضرين، وقد أنكر مؤرخ مصري معاصر هو المقريزي هذه الروية، وانضم إليه ابن إياس المؤرخ المصري
وما لبث ابن خلدون يولي منصب القضاء في مصر ويعزل ست مرات بسبب كيد خصومه ودسائسهم له إلى أن توفي سنة ثمان وثمانمائة هجرية وقد بلغ نيفاً وسبعين سنة من حياة