إتمامها في كتابة تاريخه، وقد رفهه إلى السلطان أبي العباس المغربي، وأنشده قصيدة طويلة يشيد فيها بسيرته وأعماله، ويستدر عطفه ورعايته، وينوه بكتابه يقول فيها:
وإليك من سير الزمان وأهله ... عبراً يدين بفضلها من يعدل
والله ما أسرفت فيما قلته ... شيئاً ولا الإسراف مني يجمل
ولقد كان ابن خلدون أعظم سياسيّ ومفكر عرفته إفريقية والأندلس في القرن الثامن الهجري.
ابن خلدون في مصر
غادر ابن خلدون تونس لينتظم في ركب الحجاج، ولكنه لم يحقق تلك الغاية فقد نزل القاهرة ليقضي أيامه بمصر في هدوء ودعة واستقرار، وكانت القاهرة يومئذ موئل التفكير الإسلامي في المشرق والمغرب ولبلاطها الشهرة الواسعة في حماية العلوم والآداب، فبهرت ابن خلدون ضخامة القاهرة وعظمتها كما بهرت كل من رآها من أعلام المشرق والمغرب فوصفها بقوله:(فرأيت حاضرة الدنيا، وبستان العالم، وإيوان الإسلام، وكرسيّ الملك) ولقد كان المجتمع القاهري يعرف الكثير عن شخصه وسيرته، ولاسيما مقدمته التي أذاعت فضله، فأقبل عليه العلماء والطلاب من كل صوب، وقد كان ابن خلدون محدثاً بارعاً، رائع المحاضرة، يخلب ألباب سامعيه بمنطقه؛ هذا إلى فصاحته وجمال صورته، فتقرب من السلطان الظاهر برقوق.
وإنه لمنظر شائق ذلك الذي يقدمه إلينا ابن خلدون عن مجلسه، ومن حوله العلماء والكبراء يشهدون الدرس الأول حيث يقول:(وانقضى ذلك المجلس، وقد شيعتني العيون بالتجلة والوقار)
عين ابن خلدون قاضياً لقضاة المالكية تنويهاً بذكره، وإعلاناً لشأنه، وقد ثارت حوله عاصفة شديدة بسبب الحقد والسعاية، وقد بين ما كان يسود جو القضاء في مصر في ذلك الحين من جهل وفساد الذمة، وأنه حاولي إقامة العدل الصارم المنزه عن كل شائبة، وما زال أمره بين جزر ومد إلى أن عزل من منصبه، وغادره موفور الكرامة والهيبة، فانقطع إلى الدرس والتأليف إلى أن أذن له السلطان بأداء فريضة الحج، ثم عاد بطريق البحر حتى القصير مخترقاً الصعيد بطريق النيل فوصل القاهرة