ولقد زار مصر في عهد المستنصر الفاطمي سائح فارسي مشهور هو ناصر خسرو، وكان ذلك في عام سنة ٤٣٩ هـ. فوصف ما شاهده ورآه في كتابه (سفرنامه)، وقد أضفى على مشاهده ألواناً من الخيال الذي أوتي منه حظاً كبيراً فقد كان الرجل شاعراً وأديباً، وهو يذكر أن القصر الفاطمي كان فيه ثلاثون ألف جارية، واثنا عشر بهواً، وعشرة أبواب، وألف حارس. ويصف دور القاهرة في ذلك الزمان بأنها (محكمة البناء مبنية بالحجر لا باللبن، يفصل بعضها عن بعض حدائق بهيجة)
كانت القاهرة طيلة حكم الفاطميين مصونة محفوظة لهم ولأولادهم وحرمهم وخواصهم والمقدمين من جنودهم؛ ولكنها في عهد الأيوبيين تغيرت حالها من الصيانة إلى الابتذال، وتدلت أمورها من الخواص إلى العوام، يسكنها الجمهور، وأصبحت دور الفواطم ذوات الحدائق الغُنّ حارات وشوارع ومسالك وأزقة؛ وعمر حَّي القلعة، وحافتا الخليج الكبير، وما دار على الحسينية. وظلت مصر والقاهرة تتسعان حتى صارتا بلداً واحداً يشتمل على:(البساتين، المناظر، القصور، الدور، الرباع، القياسر، الأسواق، الفنادق، الخانات، الحمامات، الشوارع، الأزقة، الدروب، الخطط، الحارات، الأحكار، المساجد، الجوامع، الزوايا، الربط، المشاهد، المدارس، الترب، الحوانيت، المطابخ، الشون، البرك، الخلجان، الجزائر، الرياض، المتنزهات). المقريزي ج٢
وظلت القاهرة كذلك إلى أن حدث الفناء الكبير في سنة تسع وأربعين وسبعمائة فخرب كثير من هذه المواضع، وتبع ذلك خراب صعيد مصر وجلاء أهله عنه. وقد أدرك هذه الخرائب والأطلال المقريزي وأشار إليها في خططه
ويظهر أن بعضاً من المؤرخين كانوا يتحاملون على القاهرة لحاجة في نفوسهم، فلا ينصفونها إذا وصفوا، ولا يقدرونها إذا تكلموا. وقد يجسَّمون في المعايب، ويهوَّلون فيها المثالب. ومن هؤلاء أبو الحسن علي بن رضوان الطبيب، فقد نقدها نقداً مراً؛ وذكر كثرة الأوساخ والأقذار فيها، وكثرة العفونة في مياهها؛ ثم ذكر نظام (المجاري العامة) فيها وما يجره على السكان من عفونة ووباء. والحق أن ابن رضوان نظر إلى القاهرة نظرة الطبيب الصحي أو (مفتش الصحة)، فغلا في نقدها وأسرف في ذمها.