الأفغاني؛ وما القول فيمن سبقهم أو لحق بهم من (الناضجين) الأفذاذ؟
أكان هارون الرشيد حاكماً ناضج العقل أو لم يكن كذلك؟ وابن خلدون - ألم يكن مفكراً تاريخياً للتفكير يقل نظيره في السابقين واللاحقين؟
وهكذا يقال في جمال الدين الأفغاني وكل دراسته شرقية، وكل ما استفاده من قليل الثقافة الإفرنجية لم يؤثر في تكوين عقله ولا في طبيعة التراث الشرقي الذي نشأ عليه. فهم جميعاً أنضج عقلاً من التلميذ الحديث الذي يعلم من العلوم العصرية ما لم يكونوا يعلمون.
هؤلاء ناضجون لا مراء، وكانت لهم ومن حولهم حياة عقلية ناضجة لا مراء، وكان التراث الشرقي هو التراث الذي عولوا عليه بغير التباس ولا مناقضة، إذا جاز الالتباس أو جازت المناقضة في شؤون الرجال النوابغ الذين يعيشون معنا الآن.
والواقع - أيها الإخوان والأبناء الأعزاء - أن الشرقيين لا يمكن أن تنضج لهم حياة عقلية في غير تراثهم الذي ينتمي إليهم ويصطبغ بصبغتهم.
فغير ممكن كما أسلفنا أن نجعل العلم الطبيعي تراثاً شرقياً أو غربياً بأية صفة من الصفات؛ وغير ممكن كذلك أن نجعل العلم الرياضي تراثاً ينسب إلى الشرقيين أو إلى الغربيين.
فلم يبق إذن إلا التراث الخاص بالشرقيين الذي لا يشاركهم في خصائصه مشارك من العالمين، وهو التراث المشتمل على ما لهم من أشعار ومواعظ وأمثال وحكايات وآداب وقواعد سلوك، وفي طليعته روح العقائد الدينية والحكمة النفسية والفكرية، وما يصاحب ذلك من فقه شريعة ودين.
وقد يسأل السائل في هذا المعرض: وما الرأي في الأشعار والأمثال والحكايات التي تنقل من الغربيين، وهي تراث غربي لا نزاع فيه؟
فجوابنا على هذا السؤال أن التراث الغربي الذي ينتقل إلى الشرقيين ينقسم إلى قسمين: القسم الذي يمكن أن يمتزج بحياتهم وهو من نوع تلك الحياة فلا يلبث أن يدخل في الشرق حتى يصطبغ بصبغته ويجري على سنته، ومثله في هذه الخصلة مثل التفاحة الأمريكية التي تجري في دم آكلها من المصريين: هي تفاحة أمريكية ما في ذلك خلاف؛ لكن الدم الذي يتولد منها في عروق آكلها دم مصري وليس بالدم الأمريكي أو الذي ينمى صاحبه إلى الديار الأمريكية.