ومما تقدم يتبين لنا أن التراث الشرقي يجتمع مع العلم الطبيعي والعلم الرياضي في بيئة واحدة. ونعود فنقول مرة أُخرى: إن أحداً لم ينكر أن العقول نضجت في الشرق على تراثه دون غيره، فكيف ينكر أحد أنها قابلة للنضج إذا جاز أن تضم إليه العلوم الطبيعية والعلوم الرياضية؟
ونصل بعد هذا إلى النضج العقلي لنقول في التعريف به كلمة وجيزة تؤكد معنى ما قدمناه.
فالعقل الناضج كجميع الملكات الناضجة والحواس الصحيحة إنما يتم له النضج بالمرانة والمزاولة أيا كان الشيء الذي تقع فيه المرانة والمزاولة.
فحاسة البصر مثلاً تستوفي حظها من القوة بالنظر إلى الأشجار كما تستوفي حظها من القوة بالنظر إلى الصخور.
وعضلات الجسم تقوى بحمل النحاس كما تقوى بحمل الحديد أو الفضة أو الذهب أو الجواهر الكريمة.
والعقل يستوفي نضجه بأن يعمل ويفكر ويبحث فيما يراه ويحيط به، أيا كانت المسائل التي يتناولها بتفكيره وبحثه.
فالمهم في تصحيح الملكات والقوى العقلية أو الجسدية إنما هو في العمل والمرانة، لا في الموضوعات والمواد التي يتناولها عمل العامل ومرانة المتمرن؛ إذ هي في المنزلة الثانية من الأهمية. وقد يقوى النظر في الصحراء وهي خاوية أشد من قوته في المدن وهي آهلة حافلة، ما دام النظر في الصحراء عاملاً لا يكف عن الرؤية والانتباه.
ومؤدى ذلك أن المهم في إنضاج العقل الشرقي أن يعمل ولا يكف عن العمل، سواء كان موضوعه تراث الشرقيين أو تراث الغربيين.
فإذا عمل فهو ناضج، وإذا وجد مادة التفكير فهو مفكر، وإذا امتلأ بالإدراك فهو مدرك: أيا كان موضوع تفكيره وإدراكه
والمثل المحسوس هنا أحق بالتقرير من الآراء العامة والأحكام المطلقة، فلنضرب الأمثلة بالأسماء المعروفة ولا نقصر القول على رأي مقنع أو حكم مسلم البرهان.
فما القول في هارون الرشيد؟ وما القول في ابن خلدون؟ وما القول في جمال الدين