كانت تشغل منطقة ضيقة فإن الاختلاف اليسير الذي كان بين أجزاء هذه المنطقة في طبيعتها الجغرافية قد أحدث بين لهجات سكانها فروقاً ذات بال. فاللهجة الدورية مثلاً خشنة الألفاظ، حوشية المخارج، صعبة النطق، ثقيلة الأصوات، على حين أن اللهجة اليونانية رخوة الكلمات، سهلة النطق، عذبة الأصوات، يتخلل كلماتها كثير من حروف المد وأصوات اللين.
ومظاهر النشاط الاقتصادي تطبع اللغة كذلك بطابع خاص في مفرداتها ومعانيها وأساليبها وتراكيبها. ومن ثم اختلفت مظاهر اللغة في الأمم والمناطق تبعاً لاختلافها في نوع الإنتاج، ونظم الاقتصاد، وشؤون الحياة المادية، والمهنة السائدة (الزراعة، الصناعة، التجارة، الصيد، رعي الأغنام. . . الخ). وقد تؤثر هذه المظاهر في أصوات اللغة نفسها. فقد يؤدي نوع العمل الذي يزاوله سكان منطقة ما إلى تشكيل أعضاء نطقهم في صورة خاصة تتأثر بها مخارج الحروف ونبرات الألفاظ ومناهج التطور الصوتي.
واللغة مرآة ينعكس فيها كذلك ما يسير عليه الناطقون بها في شئونهم الاجتماعية العامة، فعقائد الأمة، وتقاليدها، وما تخضع له من مبادئ في نواحي السياسة والتشريع والقضاء، والأخلاق والتربية وحياة الأسرة، وميلها إلى الحرب أو جنوحها إلى السلم، وما تعتنقه من نظم بصدد الموسيقى والنحت والرسم والتصوير والعمارة وسائر أنواع الفنون الجميلة. . . كل ذلك وما إليه يصبغ اللغة بصبغة خاصة في جميع مظاهرها في الأصوات والمفردات والدلالة والقواعد والأساليب. . . وهلم جرا.
وتتشكل اللغة كذلك بالشكل الذي يتفق مع اتجاهات الأمة العامة ومطامحها ونظرها إلى الحياة. فاتجاه الإنجليز مثلاً إلى الناحية العملية قد صبغ لغتهم بصبغة مادية في مفرداتها وتراكيبها؛ حتى إنه ليقال فيها:(دفع زيارة أو تحية أو انتباها) و (أنفق وقته في كيت وكيت) , ,. . . . ' '. بدلاً من (أدى زيارة) و (قدم تحية) و (أبدى انتباهاً) و (قضى وقته في عمل ما).
وما يكون عليه الأفراد من حشمة وأدب في شئونهم ومعاملاتهم وعلاقاتهم بعضهم ببعض ينبعث صداه في لغتهم ألفاظها وتراكيبها، فاللغة اللاتينية لا تستحيي أن تعبر عن العورات والأمور المستهجنة والأعمال الواجب سترها بعبارات مكشوفة، ولا أن تسميها بأسمائها