كان للدين سلطانه على عقل عرابي ما في ذلك شك، ولكن تلك كانت نزعة العصر. على أننا نسأل ماذا يضيره من ذلك؟ وكيف يساق هذا على إنه من مساوئه وحقيق به أن يكون من حسناته؟ وهل عاب أحد على كرمويل وهو جندي مثله تزمته وتقشفه وصرامته في دينه؟ وهب إنه كان يغلو أحياناً فيخلط بين ما يتصل بالدين وما يتصب بالسياسة فهل مال به ذلك عن منهاجه السياسي أو صرفه عن وجهته التي عمل على بلوغها؟ وهل يستطيع أحد من خصومه أن يقيم الدليل على إنه اتخذ يوماً من الدين سلاحاً في غير محله؟ أو على إنه استغنى بالدعوة الدينية عن الجهاد والقتال حتى النهاية حين عملت خيانة بني قومه ودسائس أعدائه على انتزاع النصر من بين فكيه؟
ظل عرابي ثلاث سنوات مبعداً عن وظيفته إلى أن عفا عنه الخديو فعاد، ولكنه طلب أن يحال على الأعمال المدنية كمكافحة الفيضان والإشراف على بناء الجسور من ناحية نقل ما يلزم من الأدوات؛ وإنه ليذكر إنه بذل في تلك الأعمال جهداً كبيراً، ولكنه رأى غيره يكافأ مكافآت مالية أما هو فكان جزاؤه كما يقول:(وكوفئت أنا على تلك الأعمال الشاقة الجليلة بالتقاعد والراحة من غير معاش لحين ظهور خدمة أخرى، فيا لله ما أمر وأصعب تلك المكافآت المقلوبة على النفوس الحساسة الشريفة! وما أكثر العجائب في الحكومات المطلقة المستبدة الظالمة)
على أن مستر بلنت يذكر أن تكليف عرابي بتلك الأعمال كان على غير رغبته، وأن ذلك كان سبباً من أسباب نقمته على العهد القائم يومئذ ومن دوافع انضمامه إلى الساخطين والمتذمرين
وأعيد عرابي بعد ذلك إلى الجندية وألحق بالحملة الحبشية، ولكن عمله في هذه الحملة لم يكن عمل الجندي المحارب فقد كان يعمل في منصب مأمور مهمات بمصوع. ولقد عظم حنق عرابي على تلك الحملة فهو ما يفتأ يندد بها في مذكراته ويصف ما حل بالجيش فيها من كوارث في غير موجب. جاء في كتاب مستر بلنت:(وقد عاد منها كسائر زملائه ساخطاً على ما حدث فيها من سوء التصرف، وإلى هذا يرجع تفرغه الآن للسياسة، وتعاظم غيظه الذي كان موجهاً بعد ذلك نحو الخديو)
وفي فبراير عام ١٨٧٨ وقعت مظاهرة الضباط الخطيرة، تلك المظاهرة التي نلمح فيها