أوج رقيها، أو بالأحرى بلغ الشعر العربي ذروة عظمته، وبلغ من احتفاء الشعراء بتضمين الحكمة أشعارهم أن قيل في الموازنة بين أبي تمام والمتنبي والبحتري إن الأولين حكيمان، والشاعر البحتري، لكثرة ما في شعرهما من الحكم، وأبو تمام هو القائل في ذلك الضرب من الشعر:
يرى حكمة ما فيه وهو فكاهة ... ويقضي بما يقضي به وهو ظالم
ولولا خلال سنها الشعر ما درى ... بغاة العلا من أين تؤتى المكارم
فالولع بالحكمة ظاهر في الأدب العربي: فاقتباس المأثور من كلام المتقدمين أكثر ذيوعاً في العربية منه في الإنجليزية، والحكمة مادة جانب عظيم من كتب الأدب التي تحفل بما أثر عن الحكماء والخلفاء والفقهاء من جوامع الكلم، وهي موضوع مطولات كثيرة كمقصورة أبن دريد ولامية أبن الوردي وأرجوزة صاحب كتاب الصادح والباغم، وبها تمتلئ الخطب المنسوبة إلى وفود العرب إلى كسرى وإلى أهل بيت المهدي عند مشاورته لهم في حرب خراسان. وقد أولع الكتاب بنثر حكم الشعراء في رسائلهم مسجوعة منمقة، كما أولع الشعراء بنظم الحكم السائرة وأمثال العامة، وكان الشعراء أكثر لجوءاً إلى نظم الحكم وسرد العبر والاستشهاد بعظات التاريخ خاصة في قصائد الرثاء ورسائل التعزية وأشعار الشكوى والوجدانيات؛ وكثيراً ما كانت تساق الحكم في هيئة نصائح. ويقول أبن عبد القدوس (والنصح أغلى ما يباع ويوهب) ومن شعر النصيحة جيمية محمد لأبن بشير التي يقول منها:
قدم لرجلك قبل الخطو موضعها ... فمن علا زلقا عن غرة زلجا
أم الموضوعات التي طرقتها الحكمة في الأدب العربي فلا تحصر، فقد جالت في شتى نواحي الحياة: من غرور الدنيا وتقلبها ووجوب الحذر منها وتوقع زوالها، إلى مزايا الشدائد وامتحانها للرجال، إلى ندرة الصديق الصدوق، ومن شؤون الحياة اليومية إلى سياسة الدول وحكم الشعوب، ومن آداب الحوار إلى آداب مصاحبة السلطان؛ وكان بعض الشعراء يتوفرون على ضروب دون غيرها من الحكمة، حسب ما توجههم إليه بيئاتهم ونفسياتهم؛ فأبو العتاهية كان دائم الذكر للموت، والمتنبي كان يشتق حكمه من حياة التناحر والمطامع والمعارك الأدبية والسياسية التي كان يحياها، والمعري كان يستقي حكمته