ويستخرج عبرة من ظواهر الكون التي كان دائم الاشتغال بها، فهذان البيتان من نظمه يحملان طابع تفكيره ولا يمكن أن ينسبا إلى سواه:
يغادر غابة الضرغام كيما ... ينازع ظبي رمل في كناس
سجايا كلها غدر ولؤم ... توارثها أناس عن أناس
فكثير من الظروف التي أحاطت بالأدب العربي في الجاهلية والإسلام كانت تدعو إلى انتشار آثار الحكمة فيه، فجاء حافلاً بها منثوره ومنظومه على متعدد الصور ومختلف الأوضاع، ومثل هاتيك الظروف لم تصاحب الأدب الإنجليزي، ومن ثم كانت الحكمة فيه أندر كثيراً، فلا البداوة ولا الملكية المطلقة ولا رد الفعل المنعكس من الترف المفرط، ولا الروح الديني المتغلغل في المجتمع، لم يؤثر شيء من ذلك في الإنجليزية تأثيره في العربية ولم يقتصر الإنجليز على دراسة الفلسفة الإغريقية بل درسوا معها الأدب الأغريقي، وعنه تلقوا رسالته وهي الجمال، فصارت هذه رسالة الأدب الإنجليزي أيضاً، فكان الأديب الإنكليزي يتوخى الجمال فيما يشاهد ويحس ويكتب، في حين كانت الحكمة والعبرة والموعظة قبلة الأديب العربي في كل ذلك، ومن الأدب الإغريقي تعلم الأديب الإنجليزي أيضاً أن يطلق لفكره العنان ويفسح لبيانه المجال، على حين ظل رائد الأديب العربي بلاغة الإيجاز، وكبح جمحات الخيال.
ومن ثم تمثل خير ما في الأدب العربي في حكم الشعراء والخطباء والكتاب، وجوامع كلهم وموجز بيانهم، وتمثل خير ما في الأدب الإنجليزي في سبحات الخيال المطلق المطنب، من درامات وملاحم وقصص، فالعيب الاجتماعي أو النقص السياسي الذي كان يراه الأديب العربي، فتحمله الظروف سالفة الذكر على أن يصوغه حكمة موجزة عامة لا تثير ريبة السلطان، كان يحوك حول الأديب الإنجليزي في قصة اجتماعية رحيبة الجوانب تشخص موضع الداء تشخيصاً؛ وتعين الدواء، ويتجلى الفرق بين الأدبين في هذا الصدد في نوع عبقرية شاعريهما الفذين: فقد بلغت العبقرية الشعرية الإنجليزية ذروتها في آثار شكسبير صاحب الدرامات العجاجة بالخيال المطلق، وبلغت العبقرية الشعرية العربية أوجها في قصيدة المتنبي الحافل بالحكمة البليغة.