للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ووصف الخمر، حتى قال في مدحه سلامة ذو فائش: (والشيء حيثما جعلاً) فرفعته هذه الجملة الموجزة إلى مصاف النابغة وامرئ القيس. وتروى حكايات كهذه عن شعراء الإسلام: فقد قيل إن جريراً سمع دالية عمر بن أبي ربيعة التي يقول منها: (إنما العاجز من لا يستبد)، فقال: (ما زال هذا الفتى يهذي حتى قال الشعر)، فهو لم يحفل بكل ما قاله الفتى في التشبيب، حتى ضرب على وتر الحكمة فاستثار إعجابه.

وأدب الجاهلية وصدر الإسلام حافل بتلك الحكم البليغة المشتملة على تجارب قائليها من سادة القبائل وأشرافها، الجامعة لنظراتهم في الحياة وخطتهم وسننهم فيها، وتمدحهم بما رسموه لأنفسهم من مناهج وما أخذوها به من فضائل، وهذا الباب من أكرم أبواب الأدب العربي وادعاها إلى الإعجاب، ومن أجله كان العرب في تلك العهود يغالون بالشعر وينشئون أبنائهم على مدارسته، وكانوا يسمون هذا الباب من الشعر بالأدب، لأن حفظ آثاره والتمثل بها يؤدبان النفس ويهذبان الخلق، وذاك هو الاسم الذي أطلقه أبو تمام في حماسته على ذلك الضرب من القول الشامل للحكمة والتمدح بالفضيلة. وقد اتسع معنى هذا اللفظ فبعد أن كان اسم جزء صار اسم كل وأطلق على الشعر جميعه والنثر معاً. وليس شك في أن هذا التطور الطبيعي البسيط هو منشأ كلمة أدب اللغة، وإن يكن بعض المستشرقين قد تحذلق وزعم أنها مقلوبة عن كلمة دأب. فذلك من قبيل النظريات المحضة التي لا تبلغ مبلغ اليقين أبداً؛ وليست إلا من قبيل التظرف العلمي والتظاهر بالتعمق في البحث، وإن لم يجد ذلك العلم فتيلا، ولم يدرك يوماً منزلة الإقناع.

كانت الحكمة من أظهر أبواب الأدب في الجاهلية وصدر الإسلام، وكان من أقطابها في الجاهلية من ذكر، وفي الإسلام الإمام علي والأحنف بن قيس وكثير من الصحابة، وبظهور الإسلام ثم توطد الدولة زاد العرب كلفاً بالحكمة وزاد الداعي إليها أهمية، فقد جاء في القرآن الكريم والحديث حافلين بروائع الحكم وجوامع الكلم، التي أربت على الغاية من البلاغة والسمو، وحثاً على طلب الحكمة التي هي ضالة المؤمن، وقد ظل الكتاب والحديث دائما نموذج الأدباء ومستقاهم؛ فلما فرضت الملكية المطلقة سلطتها كاملة، وأخرست الأفواه وأسكتت النقد، عادلة حينا وجائرة أحيانا، وجد الناس في الحكمة الشاملة المعممة سلوة للنفوس المقهورة، وعزاء عن المآرب المحظورة، وتنفيسا عن المطامح المستورة، واتقاء

<<  <  ج:
ص:  >  >>