للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بالحمام الساخن الذي قطعت من أجله كل تلك القفار، فلست أعرف في متع هذه الحياة ما هو أحب إلى نفسي من الحمام الساخن!

وكان إخواني قد أدركوني وحف بعضهم بالنبع وانطلق بعضهم يساير القناة. أما الإيطالي فإنه اشتغل بنصب الخيام.

وشاءت المصادفات أن يكون الهواء في ذلك اليوم قوياً ثقيلاً فكان يسفي علينا التراب ونحن لا نجد ما نحتمي فيه حتى قامت خيام الإيطالي فآوينا إليها وقد نال منا الجوع، ونشر الخادم بين يدينا علبه ولفائفه وأدار علينا الخبز فالتهمناه بما أصابت أيدينا من جبن وزيتون وقديد وما إلى ذلك مما كان قد أعد لتتبيل أغنام الرعاة المنتظرة وسمك الصيادين الموعود، فأبت علينا المقادير إلا أن نأكله هو متبلاً بالتراب ومحشواً بصغار الحصا، ومع ذلك فقد كنا نتخاطفه ونتنافس في التطويح بما نصيبه منه إلى أفواهنا قيل أن ننفخ فيه ونذروا عنه ما علق به من الرمال، فيا سبحان الله! أهكذا يحلو المر أحياناً في هذه الحياة! وماذا بقي لنا من الحقائق المطلقة في دنيانا وكل شيء فيها اعتباري كما نرى؟ إلا أن الحسن إنما يكون حسناً في ظل رضا النفس، والقبيح إنما يقبح بزوال هذه الحالة عن النفس! والسعادة مهما اختلف الناس في أسبابها فهي من الكثير الغالب من صنع أيدينا وفي القليل النادر من صنع المقادير.

ولم نهجع عقب الطعام بل انتشرنا في المكان نرتاده ونتسلق الجبل وندخل الغار بأطراف رءوسنا ثم نخرجها سراعاً لكثرة ما ألقى في روعنا من أنه شديد الحرارة يذيب نخاع الرءوس. وقضينا على ذلك ساعة وبعض ساعة حتى أوشك النهار أن ينقضي فتأهبنا لأخذ الحمام المرتجى، وانصرف كل واحد منا إلى صخرة توارى خلفها فخلع ملابسه. وارتدى قميص البحر، ولم تكن إلا هنيهة حتى استحال المكان إلى (بلاج) أنيق صغير بأولئك الفراعنة الصغار الذين جاءوا من أقصى الأرض ليحققوا للمكان اسمه ويؤيدوا له لقبه. وكان الأعرابي الذي مع الإيطالي قد احتمل فأساً وقصد إلى أوسع مكان في القناة فعمقه وأبعد غوره كما يتسع لأجسامنا ويصلح للاضطجاع. فنزلناه واحداً بعد واحد وساعدنا ذلك على رفع مستوى الماء قليلاً فما زلنا نتقلب فيه ونتلبط. وهواء المساء البارد يصفع أجسادنا الحارة ونحن نصر على أن نوهم أنفسنا بأننا نأخذ حماماً ساخناً حتى أدركنا أن

<<  <  ج:
ص:  >  >>