ولم أنتظر حتى يتقدمني من له علم بالمكان. لأني لم أكن رأيت في حياتي قط عينا حارة - ولكني كما هو الحال دائماً في أمثال هذه الشئون كنت قد صورتها لنفسي بعين خيالي. وكنت شديد الشغف الآن بأن أقابل بين الحقيقة وبين الخيال. فما كان أشد الفرق بين الصورتين!
كنت أتصور النبع على صورة (الفسقية) ينبثق من وسطها خرطوم عال من الماء له رشاش من حوله ثم يتجمع الماء في حوض حول العين ثم لا يلبث أن يفيض من الحوض إلى ذلك المجرى الطويل الذي حدثونا عنه. وكنت أتخيل هذا المجرى في صورة قناة جميلة وسط صخور صلدة ينساب الماء فيها رائقاً صافياً كتلك القناة الجميلة البيضاء التي ما تزال آثارها باقية في (وادي حوف) بحلوان والتي كنا نتناول فيها غداءنا كلما رحلنا إلى تلك الجهة. فأدرت عيني بسرعة فيما يحيط بي أبحث عن تلك الفسقية أو عن هذه القناة فلم أجد لإحداهما أثراً، فخاب ظني لأول وهلة وأحسست بقلبي يتراجع قليلاً في صدري شأن من يفاجأ بأمر لم يكن يتوقعه. ولكن سرعان ما استغرق بصري ذلك الجبل العظيم الذي كنا نقف في كنفه. فصوبت عيني فيه وصعدتها فأخذتني عظمته. ولمحت في صفحته ثغرة سوداء قريبة من سطح الأرض، فأدركت أنها لابد أن تكون مدخل الكهف الموعود. وكان هذا الجبل يقوم على شاطئ البحر ليس بينه وبين الماء في البقعة التي وقفنا فيها أكثر من خمسين متراً، ثم هو يمتد محاذياً للشاطئ مسافة مائتي متر أو ثلاثمائة متر، وبعد ذلك يتصل بالماء رأساً فيرتطم موج البحر بقدميه ويتحطم على صخوره السوداء. ولفت نظري في ذلك المثلث الرملي الضيق الذي كنا نقف على قاعدته أن قناة ضحلة تجري وسطه فتتبعتها ببصري مسرعاً فرأيتها تبدأ عند قاعدة الجبل ولكن لم أتبين من أين ينبثق ماؤها. فدلفت إليها حتى جئت المكان الذي ينبعث منه الماء فإذا هو ثلمة ضيقة بين صخرين يسيل منها الماء كما يسيل من صنبور متوسط الحجم فيجري على الصخور المجاورة حتى تتسلمه رمال الساحل فتبلع منه ما تبلعه وتترك الباقي ينداح على صدرها حتى يصب في البحر. وكانت رائحة الكبريت ساطعة تملأ الجو، ولكن الماء كان يجري كالبلور المذاب لا يعلوه بخار ولا يبدو عليه أنه حار. فأغراني ذلك بأن أمدّ إليه إصبعي ولكني ما كدت أفعل حتى سحبتها صارخاً كأنما اندق فيها مسمار. فأثلجت هذه اللسعة صدري. ومنيت نفسي