الشهر لا يقرءون الصحف ولا سبيل لهم إلى معرفة ما يكون قد مر على العالم من أحداث، وما يكون قد طرأ عليه من حروب. وعجبت من شأن الحكومة مع هؤلاء الناس ومن شأنهم هم مع أنفسهم، فإننا أصبحنا اليوم نسمع الراديو في السيارات الخاصة وهي تسير وسط الطرقات العامرة الزاخرة، ثم ها نحن أولاء نسمع من أمثال هذه المنائر التي تترك بغير جهاز ولا صفير من هذه الأجهزة الكفيلة بأن تنقل أهلها من عزلتهم فتضعهم في وسط العمران والحياة.
كان بيننا وبين (حمام فرعون) ونحن في ذلك المحجر بضع كيلومترات قد لا تزيد على خمسة أو ستة، ولكن ما كابدناه في قطع هذه المرحلة القصيرة فاق كل ما لاقيناه في طول الرحلة منذ بدايتها، ذلك بأن الطريق كان قد انقطع عند المحجر، وأصبح علينا بعد ذلك أن نسير في أرض بكر لا تطرقها السيارات إلا كلما حلا لأمثالنا أن يزور ذلك المكان، وهو نادر قليل، وكانت طبيعة الأرض في تلك الجهة جامحة نافرة، فبينا هي صلبة في بعض نواحيها إذا هي رخوة تغوص القدم في رمالها في نواحيها الأخرى وكان في انتقال السيارة من الصلب إلى الرخو ثم من الرخو إلى الصلب ما فيه من إجهاد للسائق وللراكب وللآلات نفسها، وذلك لما تستدعيه طبيعة كل ناحية من تغيير درجات السرعة وتحريك رافعات السيارة واحدة بعد أخرى بما يناسب حالة الطريق وقد حدث أننا خسرنا فعلاً إحدى سياراتنا فقد انكسرت بعض آلاتها في هذه التنقلات السريعة المفاجئة، واضطررنا إلى التخلي عنها وسط الطريق بعد أن توزعت حمولتها على بقية السيارات فزادت في عسر حركتها وتعريضها هي الأخرى للتلف، وليس يفوتني أن أقول هنا أن هذه السيارة بالذات كانت سيارة تاجر الإسماعيلية الذي لم يكن من سبب لإشراكه في هذه الرحلة غير سيارته، ولكن هكذا قدر الله في لوحه أن يأتي أجل هذه السيارة في تلك البقعة الموحشة. وصدق الله العظيم و (ما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت) وقديماً قيل:
إذا ما حِمام المرء كان ببلدة ... دعته إليها حاجة فيطير
وقبل العصر بقليل ألقت القافلة عصاها في سفح جبل عال كان يواجهنا، وقيل لنا انزلوا: فهذا هو (حمام فرعون)
وثبتُ من سيارتي فرحاً وقد نسيت أمام بلوغ الهدف كل ما لاقيته خلال الرحلة من مشقة.