وهذا السجل يعتبر وثيقة مدهشة، وربما كان بروحه وأسلوبه أقوى رسائل الدعاة وأهمها، ومما يلفت النظر بنوع خاص ما يطبعه من حرارة وأسى، وإذا كنا لا نستطيع أن نؤمن بأن الداعي يصدر فيه عن إيمان حقيقي، فإنه ينم على الأقل عن براعة الداعي في عرض ما يريد أن يعتبره الناس أساساً لعقيدة مدهشة، هذا إلى أن هذا (السجل) يعتبر وثيقة تاريخية هامة بما يقدمه إلينا عن أعمال الحاكم وتصرفاته المختلفة في بادئ عهده ثم في خاتمته.
على أنه ما يلفت النظر أيضاً أن الروايات الإسلامية والنصرانية، المعاصرة والمتأخرة، لا تشير أية إشارة إلى هذا (السجل) الذي يقول لنا الداعي إنه وجد معلقاً على المشاهد، ولو وقعت مثل هذه العلانية في إذاعة السجل بمساجد مصر لما أغفلت الرواية الإشارة إليها، ولعل الدعاة حاولوا إذاعته فلم يفلحوا، وقد اشتدت عليهم وطأة المطاردة عقب مصرع الحاكم كما رأينا فلاذوا بالاختفاء والاستتار. واصدر الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله ولد الحاكم سجله الشهير الذي يتبرأ فيه من هذه المزاعم الخارقة التي قيلت في أبيه وفي أسلافه، وفيه يعلن اعترافه إلى الله (بأنه وأسلافه الماضين وأخلافه الباقين مخلوقون اقتداراً ومربوبون اقتساراً، لا يمكلون لأنفسهم موتا ولا حياة، ولا يخرجون عن قبضة الله تعالى) وأن جميع من خرج منهم عن حد الأمانة والعبودية لله عز وجل، فعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؛ وأنه قدم إنذاره لهم بالتوبة إلى الله من كفرهم، فمن أصر فسيف الحق يستأصله
وإلى جانب هذه الوثيقة التي كتبها حمزة بن علي عقب اختفاء الحاكم. والتي يحاول فيها أن يعلل هذا الاختفاء وان يشرح بواعثه، وأن يطمئن المؤمنين على رجعة سيده ومولاه، توجد بين رسائل الدعاة وثيقة أخرى عنوانها (الغيبة) تمس نفس الموضوع من ناحية اخرى، وقد كتبت بعد اختفاء الحاكم بثلاثة اشهر عن لسان قائم الزمان (أي الحاكم بأمر الله) بقلم داع مجهول، والظاهر إن كاتبها هو المقتني أحد أكابر الدعاة واحد (الحدود الخمسة): وقد وجهت إلى أهل الشام خاصة، وفيها يذكرهم قائم الزمان بالعهد الذي قطعوه، ويحذرهم من الدجال الذي يزعم أن الألوهية انتقلت إليه، والذي عاند الموحدين وحاصرهم، ويقول إن الدين لا يصح إلا عند الامتحان، ثم يخاطب الموحدين بقوله: