الوطني مثله أو أجمل منه بيد أنه فقد الميل، فضعفت صلته بالنفس، فعادت كل مميزاته لا تميزه
وأعجبُ من هذا في أمرهم، أن أشياء الأجنبي لا تحمل معانيها الساحرة في نفوسهم إلا إذا بقيت حاملة أسماءها الأجنبية، فإن سمِّي الأجنبي بلغتهم القومية نقص معناه عندهم وتصاغر وظهرت فيه ذلة. . . وما ذاك إلا صِغَر نفوسهم وذلتها، إذ لا ينتخون لقوميتهم فلا يلهمهم الحرف من لغتهم ما يلهمهم الحرف الأجنبي
والشرق مبتلى بهذه العلة، ومنها جاءت مشاكله أو أكثرها؛ وليس في العالم أمة عزيزة الجانب تقدم لغة غيرها على لغة نفسها، وبهذا لا يعرفون للأشياء الأجنبية موضعاً إلا من وراء حدود الأشياء الوطنية؛ ولو أخذنا نحن الشرقيين بهذا، لكان هذا وحده علاجاً حاسماً لأكثر مشاكلنا
فاللغات تتنازع القومية، ولَهيَ والله احتلال عقلي في الشعوب التي ضعفت عصبيتها؛ وإذا هانت اللغة القومية على أهلها، أثرت اللغة الأجنبية في الخلق القومي ما يؤثر الجو الأجنبي في الجسم الذي انتقل إليه وأقام فيه
أما إذا قويت العصبية، وعزت اللغة، وثارت لها الحّميّة؛ فلن تكون اللغات الأجنبية إلا خادمة يُرتَفَق بها، ويرجع شبر الأجنبي شبرا لا متراً. . . . وتكون تلك العصبية للغة القومية مادةً وعوناً لكل ما هو قومي؛ فيصبح كل شيء أجنبي قد خضع لقوة قاهرة غالبة، هي قوة الإيمان بالمجد الوطني واستقلال الوطن؛ ومتى تعين الأول أنه الأول، فكل قوى الوجود لا تجعل الذي بعده شيئاً إلا أنه الثاني
والدين هو حقيقة الخلق الاجتماعي في الأمة، وهو الذي يجعل القلوب كلها طبقة واحدة على اختلاف المظاهر الاجتماعية عالية ونازلة وما بينهما، فهو بذلك الضمير القانوني للشعب، وبه لا بغيره ثبات الأمة على فضائلها النفسية، وفيه لا في سواه معنى إنسانية القلب
ولهذا كان الدين من أقوى الوسائل التي يعول عليها في إيقاظ ضمير الأمة، وتنبيه روحها، واهتياج خيالها؛ إذ فيه أعظمُ السلطة التي لها وحدها قوة الغلبة على الماديات. فسلطان الدين هو سلطان كل فرد على ذاته وطبيعته؛ ومتى قوى هذا السلطان في شعب، كان حمياً