شأنها، فما يأتي ذلك إلا من روح التسلط في شعبها، والمطابقة بين طبيعته وعمل طبيعته، وكونه سيد أمره، ومحقق وجوده، ومستعمل قوته، والآخذ بحقه. فأما إذا كان منه التراخي والإهمال، وترك اللغة للطبيعة السوقية، وإصغار أمرها، وتهوين خطرها، وإيثار غيرها بالحب والإكبار؛ فهذا شعب خادم لا مخدوم، تابعٌ لا متبوع، ضعيف عن تكاليف السيادة، لا يطيق أن يحمل عظمة ميراثه، مجتزئٌ ببعض حقه، مكتفٍ بضرورات العيش، يوضع لحكمه القانون الذي أكثره للحرمان وأقله للفائدة التي هي كالحرمان
لا جرم كانت لغة الأمة هي الهدف الأول للمستعمرين؛ فلن يتحول الشعب أول ما يتحوّلُ إلا من لغته؛ إذ يكون منشأ التحول من أفكاره وعواطفه وآماله، وهو إذا انقطع من نسب لغته انقطع من نسب ماضيه، ورجعت قوميته صورة محفوظة في التاريخ، لا صورة محققة في وجوده. فليس كاللغة نسب للعاطفة والفكر؛ حتى إن أبناء الأب الواحد لو اختلفت ألسنتهم فنشأ منهم ناشئ على لغة، ونشأ الثاني على أخرى، والثالث على لغة ثالثة، لكانوا في العاطفة كأبناء ثلاثة آباء
وما ذلَّت لغةُ شعب إلا ذلَّ، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار. ومن هذا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضاً على الأمة المستعمرة، ويركبهم بها، ويشعرهم عظمته فيها، ويستلحقهم من ناحيتها؛ فيحكم عليهم أحكاماً ثلاثة في عمل واحد: أما الأول فحبس لغتهم في لغته سجناً مؤبداً؛ وأما الثاني فالحكم على ماضيهم بالقتل محواً ونسياناً؛ وأما الثالث فتقييدُ مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها؛ فأمرهم من بعدها لأمره تَبَع
والذين يتعلقون اللغات الأجنبية ينزعون إلى أهلها بطبيعة هذا التعلق إن لم تكن عصبيتهم للغتهم قوية مستحكمة من قِبَل الدين أو القومية. فتراهم إذا وهنت فيهم هذه العصبية يخجلون من قوميتهم، ويتبرءون من سلفهم، وينسلخون من تاريخهم، وتقوم بأنفسهم الكراهةٌ للغتهم وآداب لغتهم، ولقومهم وأشياء قومهم؛ فلا يستطيع وطنهم أن يوحي إليهم أسرار روحه؛ إذ لا يوافق منهم استجابة في الطبيعة، وينقادون بالحب لغيره فيتجاوزونه وهم فيه، ويرثون دماءهم من أهلهم ثم تكون العواطف في هذه الدماء للأجنبي؛ ومن ثم تصبح عندهم قيمة الأشياء بمصدرها لا بنفسها، وبالخيال المتوهم فيها لا بالحقيقة التي تحملها، فيكون شيء الأجنبي في مذهبهم أجمل وأثمن لأن إليه الميل وفيه الإكبار والإعظام، وقد يكون