ولولا التدين بالشريعة، لما استقامت الطاعة للقانون في النفس؛ ولولا الطاعة النفسية للقوانين، لما انتظمت أمة؛ فليس عمل الدين إلا تحديد مكان الحي في فضائل الحياة، وتعيين تبعته في حقوقها وواجباتها، وجعل ذلك كله نظاماً مستقراً فيه لا يتغير، ودفع الإنسان بهذا النظام نحو الأكمل، ودائماً نحو الأكمل
وكل أمة ضعف الدينُ فيها، اختلت هندستها الاجتماعية، وماج بعضها في بعض؛ فإن من دقيق الحكمة في هذا الدين أنه لم يجعل الغاية الأخيرة من الحياة في هذه الأرض؛ وذلك لتنظيم الغايات الأرضية في الناس؛ فلا يأكل بعضهم بعضا، فيغتني الغني وهو آمن، ويفتقر الفقير وهو قانع، ويكون ثواب الأعلى في أن يعود على الأسفل بالمبرَّة، وثواب الأسفل في أن يصير على ترك الأعلى في منزلته؛ ثم ينصرف الجميع بفضائلهم إلى تحقيق الغاية الإلهية الواحدة، التي لا يكبر عليها الكبير، ولا يصغر عنها الصغير؛ وهي الحق، والصلاح والخير، والتعاون على البر والتقوى
ومادام عمل الدين هو تكوين الخلق الثابت الدائب في عمله، المعتز بقوته، المطمئن إلى صبره، النافر من الضعف، الأبي على الذل، الكافر بالاستعباد، المؤمن بالموت في المدافعة عن حوزته، المجْزِيّ بتساميه وبذله وعطفه وإيثاره ومفاداته، العامل في مصلحة الجماعة، المقيد في منافعه بواجباته نحو الناس - مادام عمل الدين هو تكوين هذا الخلق - فيكون الدين في حقيقته هو جعل الحس بالشريعة أقوى من الحس بالمادة؛ ولعمري ما يجد الاستقلال قوة هي أقوى له وأرد عليه من هذا المعنى إذا تقرر في نفس الأمة وانطبعت عليه
وهذه الأمة الدينية التي يكون واجبها أن تَشْرُف وتسود وتعتز، يكون واجب هذا الواجب فيها ألا تسقط ولا تخضع ولا تذل
وبتلك الأصول العظيمة التي ينشئها الدين الصحيح القوي في النفس، يتهيأ النجاح السياسي للشعب المحافظ عليه المنتصر له؛ إذ يكون من الخلال الطبيعية في زعمائه ورجاله، الثبات على النزعة السياسية، والصلابة في الحق، والإيمان بمجد العمل، وتغليب ذلك على الأحوال المادية التي تعترض ذا الرأي لتفتنه عن رأيه ومذهبه: من مال، أو جاه، أو