يقول كاتب في جريدة (الاكسيون فرانسيز) منذ عهد قريب: (إن المدينة هي الكذب ومحض الاختلاق، وظيفتها إقامة رجل متصنع في شؤونه متكلف في أحواله مكان الرجل الطبيعي العادي، شبهها شبه الرجل الذي يبرز مرتدياً ثيابه مصففاً شعره بعد أن يكون عارياً في حجرته الخاصة) ثم يختم المقال بقوله (على المرء أن يختار بين أن يكون متمدناً لا يعرف للإخلاص معنى وبين أن يكون غير متمدن مخلص لذاته)
كلا ليس من المحتم على المدنية أن تتجرد من صفة الإخلاص، وليس من اللازم على الإنسان إذا أراد التميدن أن يكون كاذباً أفاكا، بل إذا لم يكن للمدنية بد من شيء تتصف به وتحمل طابعه فأنه الصدق. إني لست من الذين يلقون تبعة الكذب والتزييف البادين على كل مظهر من مظاهر حياتنا على عاتق الفرد، فأن الجاني هو المجتمع كلما أراد أن يخنق صوت الشعب، وكلما حاول أن يتركه على حاله من الغباوة والجهل والاستعباد، لا يعرف ما يجيش في فؤاده فيعبر لنا عنه ولا يدرك ما تستفيده الثقافة منه إذا جهر بما هو دائر في خلده حائم بمخيلته
وقفت نفسي مذ كنت شاباً احترفت حرفة الكتابة على دحض الزعم القائل (قال الإنسان كل ما يمكن أن يقوله وليس في استطاعة أحد أن يقول غير ما قيل) وقد اتخذ هذا الزعم وطنيو ذاك العهد شعاراً لهم يتمثلون به
أليس من دواعي العجب والغبطة وقد مضى عصران كاملان على الكلمة التي كان يعتز بها لابروبير:(جئت في الزمن الأخير) أن نرى أنفسنا أمام عالم حافل بالعجائب والغرائب لم نصل بعد إلى كثير أو قليل من أسراره، أمام عالم يقظ في إبان فتوته يطلع علينا كل يوم بجديد
من يقل أدب قوم فكأنه عنى بذلك خصالهم وأحوال مجتمعهم، لكن هذه القاعدة كثيراً ما تشذ، وقد كثر شذوذها في الآداب الفرنسية، فإن لدينا طائفة كبيرة من الكتاب العظام لم يحظوا في حياتهم بعطف الجمهور وتقديره، فيقال بأنهم يكتبون لأنفسهم؛ لكن هذه الطائفة لم تعدم بعد حين الأنصار الذين رفعوها إلى المكان اللائق بها؛ وقد فطنوا للنظرات العجلى التي لم يستطع إدراكها المعاصرون. وكأني بذلك أعود بالمخيلة إلى بودلير وإلى رامبو وإلى ستاندال أيضاً الذي كان يكتب لعدد ضئيل من محبي أدبه، ويقول بأن قراءه الحقيقيين