يسمعه الراعي وقد ترعرع قمحه ومشى النضوج في سنابله)؛ فهل نترك تلك الأوقات السعيدة دون أن نسجلها
إن أكثر الواقعيين تطرفاً، وأشدهم تشاؤماً وانقباضاً لا يستطيع أن ينكر وجود أمثال تلك اللحظات، فان هو فعل فقد ترك إنتاجه ناقصاً مبتوراً ونفسه ضيقة يعوزها الاتساع والبسطة، على أن شكسبير الكامل لم يكن يستطيع أن يكون ناقصاً، فلم تكن تلك الأوقات النادرة لتمر دون أن يرقبها ويسجلها معاً
لقد سجلها الشاعر كما يجب أن تسجل - أعني أنه لم يصورها كما هي في الحياة - لم يرسم لنا أحلام الشباب نفسها، يحلمها وهو يقظان فتسعده وتزكي خياله، بل صور لنا عالماً جميلاً غريباً حتى إذا ما تعرفنا إليه ودخلناه أحسسنا نفس ما يحسه الشباب الحالم من سعادة ودفء وسلام، وكانت المشاعر التي تختلج بها نفوسنا حينذاك هي نفس المشاعر التي تنتجها هذه الأوقات السعيدة في حياة الرجال
أقول إن شكسبير كان واقعياً حتى في أحلامه وخيالاته وقد يبدو هذا القول غريباً، على أنه شرحه سهل بسيط؛ فكثير من الناس يحسب أن الفنان ساعة الخلق يقلد مظاهر الطبيعة نفسها ويصورها فان هو قلد - في زعم هؤلاء - شيئاً لا يراه الجميع في الطبيعة ويحسونه - كان تقليده خاطئاً وخلقه وهماً باطلا، وعندي أن هذا الرأي خاطئ من أساسه؛ فالحق أن الفنان لا يقلد مظاهر الطبيعة نفسها، بل يدرس ويقلد السبيل الذي تسلكه الطبيعة في خلق مظاهرها، وإنما هي الآلة المصورة التي تعنى بتصوير هذه المظاهر دون أن يهمها تقليد السبيل الخالقة وتصويرها. ومن هذا يكون الحكم على العمل الفني من حيث قربه من الواقع والحق لا يتعلق بمحتويات العمل نفسه بل بالإحساس الذي تنتجه هذه المحتويات على القارئ أو المشاهد أو المستمع
فشكسبير هنا لا يعطينا هذه اللحظات السعيدة في حياتنا نفسها بل ما قد تنتج هذه اللحظات أو ما يقرب منها
إن ما يعطينا الشاعر هو حلم حلمه ساعة منصف ليلة صيفية حيث يرق النسيم ويصفو، ويهدأ الفكر ويرتاح البدن، ذلك هو كائن دقيق يهيم وينتقل من حلم إلى حلم، له أجنحة فضية رقيقة تتكسر جميعها وتتلاشى إذا ما حاولنا أن نحبسه أسيراً في سجن العقل