أما الثانية فقد ذهبت بذهاب دعابتها، بل إنهم هم أنفسهم لم يأخذوا بها لم يسيروا على ما كانوا يدعون إليه، وهذه أكبر شاهد على أن محمد لم يكن أخا شهوة كما يتهمه أولئك الضالون، ظلماً وعدواناً.
والله لشد ما نتعدى حدود الجور والخطأ، إذا اتهمنا محمداً بأنه رجل شهواني لا هم له إلا إشباع نفسه من الملاذ وقضاء مآربه من الشهوات. فما أبعد ما كان بينه وبين الملاذ والشهوات، بل لقد كان زاهداً في حياته كلها متقشفاً في مأكله وملبسه ومسكنه، وجميع أحواله، فقد كان طعامه عادة لا يزيد على الخبز والماء، وكثيراً ما كانت الشهور تمضي ولا يوقد بداره ناراً تحت قدر، وإنهم ليذكرون. . . ونعم ما يذكرون - أنه كان يقوم بأعماله بنفسه، يرفو ثوبه ويخصف نعليه بيديه، فهل بعد هذا تواضع ومفخرة؟ وهل هذه هي صفات الرجل الذي يسعى إلى الجاه والسلطان والملك والصولجان!
حبذا محمداً من رجل خشن الطعام مرقع الثياب مجتهد في الله ساهر ليله يذكر ربه وينصت لوحيه جاهداً في نشر دينه، لا يطلب رتبة ولا يطمع في دولة أو سلطان أو غير ذلك مما يتطلع إليه أصاغر الرجال.
والله لو لم يكن محمد صادقاً في دعوته مخلصاً في تأدية رسالته لما لقى من أولئك العرب الغلاظ الأكباد توقيراً ولا احتراماً ولا تعظيماً ولا إكباراً، وما كان مستطيعاً معاشرتهم أكثر أوقاته بعد أن قام بدعوته ثلاثاً وعشرين حجة. وما كان مقدوره أن يقودهم إلى ميادين القتال لا يهابون الموت، يلتفون حوله ويقاتلون بين يديه ويجاهدون في سبيل دعوته، يلقون مصارعهم آمنين مطمئنين إلى المصير الذين وعدهم الله إياه (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم وذلك هو الفوز العظيم).
لقد كان في هؤلاء العرب غلظة وجفاء وكبر وعجرفة، وكانوا حماة الأنوف أباة الضيم صعاب الشكيمة وعر المقادة ليسوا بالمنساقين وراء كل ناعب، فمن استطاع تذليل جانبهم وقدر على رياضتهم، حتى رضخوا له وساروا وراءه مسلمين له القياد، فلولا ما أبصروا