هؤلاء جميعاً لما استعصى عليه الأمر. ولكن كيف يكون ذلك وهو ذو النفس الكبيرة التي كل همها إسعاد البشرية وإنقاذها مما هي فيه، إننا لا يمكن أن نتهمه بعدم الإخلاص لدعوته، لأنه من الذين لا يمكنهم إلا أن يكونوا مخلصين جادين فيما يعملون، ولولا ذلك لما نجحت دعوته، لأن الإخلاص هو أساس كل نجاح. فبينما نرى الآخرين الذين يبتغون عرض الحياة الدنيا يرضون بالإصلاحات الكاذبة ويسيرون خلف الاعتبارات الباطلة، ترى محمداً يأبى أن يستعين بمألوف الأكاذيب ويتوشح بما كان متبعاً في زمن من الخرافات والأباطيل، فقد كان منفرداً بنفسه العظيمة مقتنعاً بحائق الأمور، متفكراً في أسرار الكائنات، بل كان سر الوجود يسطع لعينه - كما قلت - بمخاوفه وأهوائه ومباهجه وزخارفه، فلم يستطيع شيء من الأباطيل أن يحجب عنه كل ذلك، وكأني بلسان ذلك السر الهائل يناجيه في خلوته (ها أنذا) إن هذا الإخلاص في الدعوة والتفاني في القيام بها لا يخلو من معنى إلهي مقدس، وما كلمات محمد التي كان ينطق بها، إلا صوت خارج من صميم قلب الطبيعة وصميم الواقع، كان إذا تكلم فكل الآذان برغمها صاغية، وكل القلوب خاشعة واعية، وكل كلام بعد ذلك غير كلامه هباء، وكل قول سوى قوله جفاء.
لقد ظل منذ أيام أسفاره ورحلاته إلى بلاد الشام، تجول بخاطره آلاف من الأفكار التي لا يمكن أن تأتي إلا لكل ذي عقل راجح ونظر ثاقب. من أنا؟ وماذا أكون؟ ما هي الحياة وما قيمتها؟ وما هو الموت وماذا سيكون بعده، وماذا أعتقد وماذا أفعل؟ وما هو أعبد ما يعبد هؤلاء القوم من أصنام وأوثان لا تنفع ولا تضر؟. كل هذه الأسلة والخواطر كانت تجول بفكرة في خلوته، فهل أجابته عنها صخور جبل حراء أو ما يحيط به من الفلوات والقفار، أو ما كان يمر به من شماريخ طود الطور. كلا لم يجبه شيء من ذلك حتى ولا قبة الفلك الدوار، أو تعاقب الليل والنهار، ولا النجوم الزاهرة، ولا الكواكب الظاهرة، ولا الأنواء الماطرة. لم يتلق جواباً من كل هذه الأشياء ولا من واحد منها. ولكن سرعان ما جاءه الجواب شافياً مبيناً منقذاً له من حيرته واضطرابه، في خطاب الله العلي القدير لنبيه موسى:(إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكرى، إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزي كل نفس بما تسعى. فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فترى). إنه جواب لا لبس فيه ولا غموض، وإنه السر الذي أروعه الله روح محمد، فنزل برداً وسلاماً