والقرار من القلوب، وتثير الخوف والفزع في النفوس، وتهيج في المجتمع ألوان النفاق والأخلاق الفاسدة، وتحل عرى الجماعة؛ فيصبح الأخ عدوا لأخيه، والأمة شيعاً وأحزاباً يتربص كل بالآخرين دوائر السوء، ويقدر كل منهم ان خيره كله في نجاته هو، وشر الآخرين. وانه ليس عليه لوطنه، ولا لمواطنيه وبني جنسه شئ من الحقوق ينبعث بها الشعور من قلبه، ويتحقق بها معنى التعاطف والتراحم.
ولعمري أن العالم سيظل في هذه الحيرة، وهذا الاضطراب بل في هذا البحر اللجي من الشرور والمفاسد، لا يجد راحة مادية، ولا يحس راحة روحية، ولا يتنسم شيئاً من النسيم الذي يبشر بالخلاص والنجاة، سيظل كذلك ما ظل متمسكاً بأهداب هذه النظم التي أفتحرها الإنسان، واتخذها أساساً لحياته فما ذاق منها إلإ الخوف والجوع، والظلم والطغيان.
طريق الخلاص:
وقد أقلقت هذه الحالة كثيراً من مفكري الأمم في الشرق والغرب ومدعى حب السلام والأمن في العالم، ولم يبق أحد له فكر سليم وقلب رحيم إلا أشفق على الإنسانية من عواقب ما تتخبط فيه من ظلمات، وأخذوا يفكرون في طريق الخلاص فتفتقت بعض الأذهان عن وسائل زعموها طريقاً للسلم العالمي المنشود، وما هي في واقعها إلا تلبية لنزعات الطغيان الكامن في النفوس الذي يدين بالأثرة ولا يعبأ بمصالح الأمم، ولا يكترث بما يصيب الإنسانية من ويلات.
وهذا هو سلامهم لا يزال بعد اتخاذ هذه الصور يتعثر في خطواته، ويلتوي في مشيته، والشر يتكون ويقوى في خلال خطواته: تنطلق أبواق الدعاية وتعقد المؤتمرات، وتوضع المبادئ وتعقد المجالس، ثم لا تلبث الدعاية أن تخفق، والمؤتمرات أن تنفض، والمبادئ أن تتبخر، والمجالس أن تنحل، وتصبح ردهات هذه المنشآت ميداناً للارعاد، والإبراق. وتتطاير شرر الطغيان على الضعفاء. والويل كل الويل لمن لا تحميه قوة، أو يرمى بنفسه في أحضان قوى مستعبد. ولا عجب فإن الطغيان الذي تندلع به نيران الحروب الفتاكة هو الذي يتسلط على تلك الرءوس التي حاولت أن تستر طغيانها باسم التفكير في وسائل السلم العالمي؛ فهو سلم تذوق الإنسانية من مرارته مثل ما ذاقت وتذوق من مرارة الحرب، فكلاهما وليد الطغيان، وكلاهما وسيلة من وسائل التخريب والتدمير والقلق والاضطراب.