والحركة الدائبة والشعر المتوهج تتجمع في مخيلتي وتتجسم حتى لتبدو شخصاً متكاملاً له ملامح مهدي الشريرة وابتسامته الخبيثة التي توحي بالمكر وتبيت الغدر. أيها الناس: من باستطاعته أن يتلقى سلوك بدور في رزانة وهدوء؟! ومن بقدرته أن يشهدها تغازل فتى غريباً أمامه وهو ابن عمها؟! وصحيح أنها لم تبادل مهدي كلمة واحدة، وصحيح أن محاولات مهدي الغرامية لم تتجاوز النظرات المشوقة، كل هذا صحيح، ولكن من في إمكانه أن يضمن تفاديهما الخطيئة إلى النهاية؟! من في إمكانه، من؟!
وبدت لي الحياة مظلمة قاتمة، وانقلبت الأوضاع في عيني، وشرعت أنظر إلى الأمور بعين المستقبل كما لو كانت الكارثة قد وقعت بالفعل. ولم لا تقع؟ إن أية قوة في الأرض لم تكن قادرة على ضبط عواطف بدور وتقويم سلوكها، بينما لبث مهدي قائماً على عهده؛ يترصد ظهورها على السطح ليلتهم شعرها الأشقر وصدرها الناهد ووجهها الفاتن بنظراته الأثيمة. كم مقت ذلك الفتى الخبيث بل الشيطان الرجيم الذي أرسلته أبالسة الجحيم ليعكر هنائي في تلك الإجازة التي بشرتني بادئ الأمر بسعادة طافحة. وأصبحت سجيناً في الدار رهن مخاوفي، ولم أعد أطمئن لوجودي بعيداً عن بدور. فضلت سجن الدار على سجن الشكوك والتهاويل. . وأي سجن؟! كنت أتنزه على السطح في عجاجه الغبار الذي تثيره بدور أثناء الكنس في الوقت الذي يهرع فيه الناس إلى الشوارع الجميلة. وكم كان يشق علي أن أراقبها في تلك اللحظات عندما أرى عباءتها تنزلق عن رأسها بين حين وآخر فتكشف عن شعرها المتوهج بلون الذهب الصافي وتفسح له سبيل الإغراء!
آه منك يا بدور. . كم كنت عنيدة قاسية! لقد أعجزتني. أقسم لك أنك أعجزتني فلم أعد آمل إلا بكف ذلك الوقح عن غزله الصفيق. وفكرت أن أذهب إليه وأستعطفه عله ينصرف عنك. تصوري! أوشكت أن أكون كمن يتوسل إلى اللص ليعيد إليه ماله!
ولكنني وجدت نفسي، حين رأيته صباح اليوم التالي على رأس الزقاق، أجذبه من (ياقة) سترته بعنف وأبادره بلكمة ألقته على الأرض صريعاً وأنا أصرخ مهدداً إياه بالقتل إن لم يكف عن البحلقة في سطحنا. . .
ما أعظم السعادة التي تغمر المرء حينما تستجاب له رغبة قد يئس من تحقيقها، وما أعظم الفرحة التي اجتاحت كياني حينما أقبلت الأمسية التالية فلم يلح لمهدي ظل على السور،