شيئاُ فشيئاً حتى جفت مياهه. ولعلها كانت أياماً طوالاً في حساب الزمن لكنني أحسست كما لو كانت يوماً واحداً. ولا أعلم أيضاً متى بدأ النبع يجف؛ أفي تلك الساعة التي لمحت فيها مهدي متكئاً على سور السطح المشرف على دارنا وعيناه مثبتتان على سطح منزلنا كأنه يترقب ظهور شخص معين؟ أم في تلك الأمسية التي وافيت فيها بدور إلى السطح فألفيتها متشاغلة عن العمل ترصد سور السطح المجاور في لهفة وقلق؟ أغلب الظن أنه بدأ يجف في تلك الأمسية، فلا زلت أتصور كيف حدقت إلى الناحية التي تتجه إليها أنظارها فارتسمت في خيالي في التو صورة الشاب المتكئ على السور وفي عينيه شوق حائر. وانبعث في أعماقي شعور داخلي يشي بوجود صلة تربط الاثنين.
وبين يوم وليلة تفتحت عيناي على حقائق مرة. . إن بدور لم تعد تلك الصبية الحيية الهادئة التي عهدتها بالأمس. . كل همها اليوم أن تبدو جميلة فاتنة! في الصيف الماضي لم تكن تعبأ بالوقوف أمام المرآة. . وفي هذا الصيف دأبت على مناجاتها دون كلل أو ملل. ماذا جرى بالله يا بدور؟! ماذا جرى؟!
لم يكن الأمر مغلفاً بغموض يعوزه التأويل. . إنه مهدي. . ذلك الشيطان! كانت تنذر أوقات فراغها للتبرج له. . له وحده. . وكانت تخلق الأعذار الواهية لتخف إلى السطح وتنشر زينتها أمام عينيه. وكم اختلست إليها النظر وهي تخطر على مرأى منه في رشاقة وخيلاء، وتطلق موجات الإغراء من مكمنها في الشعر الساحر. . تارة تتهدل بعض خصلاته على جبينها فتلقي برأسها إلى الوراء في دلال متكلفة إبعادها، وطوراً تتدلى ظفيرتها على الصدر الأشم فتقذف بهما إلى كتفيها في حركة فاتنة، وحيناً تتناثر الشعيرات المتوهجة كأشعة الشمس على وجهها تغمره القبلات فتمد إليها يدها وتداعبها في حنان. بدور. . بدور. .، لماذا اخترت مهدي من دون الناس جميعاً لتغرقيه بفيض فتنتك؟؟ إنه لم يكن أهلاً للاختيار فهو شاب سيئ النوايا لا يعرف للحب الصادق معنى. وكنت كالزهرة العبقة المتفتحة في مطلع الشمس فاشتهاك كما تشتهي الفراشة الزهرة الزاهية، وكما تنبذ الفراشة الزهرة بعد أن تمتص رحيقها بتمتع الشباب العابثون من طرازه بالفتاة ردحاً من الزمن لينبذوها بعد حين، وقد أشفقت عليك من هذا المصير التعس يا بدور، فلماذا تجاهلت غرضي، لماذا؟