هناك حيث تتوقف قيمة الفنان على مدى خبرته بتلوين الألفاظ والأجواء في الميدان الأول، وتوزيع الضلال والأضواء في الميدان الثاني، وتوجيه الأنغام والأصوات في الميدان الأخير. ولا بد للأداء النفسي في الشعر من هذا (التصميم الداخلي)، لا بد من جمع أدوات العمل الفني وترتيبها في ذلك المستودع العميق، مستودع النفس، قبل أن ندفع بها إلى حيز الوجود كائناً حياً مكتمل الخلقة متناسق الأعضاء إننا ننكر ذلك الشعر الذي تكون فيه القصيدة أشبه بتيه تنطمس فيه معالم الطرق وتنمحي الجهات، أو أشبه بمولود خرج إلى الحياة قبل موعده فخرج وهو ناقص النمو مشوه القسمات.
هذه كلمة نمهد بها لتلك القصيدة التي يعرض فيها الشاعر قصة الأمل الإنساني كما تعرفها الأيام في دنيا الأحياء، وإنها لتمثل خير تمثيل ذلك التصميم الداخلي الذي ندعو إليه، أو ذلك التصميم النفسي الذي يقود الإخراج الفني تلك القيادة التي يندر أن يفلت فيها الزمام. . .
في المقطوعة الأولى التي تنتظم عشرة أبيات من الشعر، يقدم الشاعر أول فصل من فصول القصة. إنه في طريقه إلى التمثال، تمثال الأمل الذي نحته من قلبه وروحه، إنه يريد أن ينفرد به ليناجيه، وفي الليل حين تنام الكائنات. . . تستيقظ الذكريات! ليس النهار بالوقت الذي تطيب فيه المناجاة. إن المناجاة تنفر من الضوء وتستنكر الضوضاء، لأن مهدها الظلام الشامل ولأن موطنها السكون العميق. . . من يفطن إلى هذا المعنى، إنه شاعر الأداء النفسي، إنه على طه! لو كان من شعراء الأداء اللفظي لخاطب التمثال من مذياع اللفظ لا مذياع النفس، حيث لا يفرق المذياع الأول بين الوقت المناسب وغير المناسب لفنون الخطاب. . . مذياع النفس حين تنطلق الدافقة الصوتية في وقتتها المعلوم، ومنظار النفس حين تشق الرؤية الشعرية طريقها ولو كان بين الغيوم:
مد طير المساء فيه جناحا ... كشراع في لجة من عقيق
ليست الألفاظ في مثل هذه الصورة مما يقذف به قذفاً لتستقر في أي موضع يقدر لها أن تستقر فيه، ولكنها مفاتيح، مفاتيح (غرف نفسية) يتصل بعضها ببعض حيث تشف الجدران فلا حاجة بك إلى معالجة الأبواب. . . إن (الستار الشفقي) غرفة و (طير المساء ذا الجناح الممدود) غرفة أخرى، و (الشراع الذي في لجة من عقيق) غرفة ثالثة، وأداة الاتصال بين