تصدع فيها الشمل، وافترق الطريق، واختلفت الحظوظ، واتسعت الفروق، وثقلت الأعباء، وكثرت الأصدقاء، وتوزع القلب، وتغيرت الدنيا، واحترب العالم كله مرتين، ولكن صداقة الشباب ظلت راسخة الأصل في أعماق الفؤاد لا يعبث بها الحدثان ولا ينال منها الزمن.
كنا ثلاثة فأصبحنا اثنين: طه حسين وأنا. أما محمود زناتي فقد سبقنا إلى الغاية التي لا بد أن يبلغها كل حي. مات محمود وبكاه طه في (الأهرام) بكاء هز قلب الخلي واستدر عين الغريب. وبكاء طه على محمود بكاء على عهد مضى لن يعود، وعلى صديق قضى لن يعوض - مات محمود على فراش غير دافئ ولا وثير؛ لأنه كان وحيد أبويه، وكان أبوه وحيد جديه، فلم يكن له من عصبيته لا أخ ولا عم، وكان الله قد جعله عقيماً فلم يكن له من صلبه ابن ولا بنت. ونزل به منذ ثلاث سنين مرض فادح طال وأعضل حتى سلبه الأمل وحرمه الراحة ونقله بنو أخواله إلى ناي وهو في نهاية الشوط ونزاع الروح. وكان طيلة مرضه إذا هذى ينشد شعر الشنقيطي وكان يحفظه كله، وإذا وعى ذكر طه والزيات وتمنى لو يهادنه المرض وتعاوده الصحة فيغشى ما كان يغشى من أماكن، ويزور ما كان يزور من أصحاب! رحمك الله يا محمود وبرد بالغفران والرضوان ثراك! لقد كنت حريصاً على الوداد حين ضاع الوداد، وسخياً بالوفاء حين عز الوفاء. وأحسن الله عزاءك وأطال بقائك يا أخي طه! لقد ذكرتني أواخر الصبا وأوائل الشباب وعهداً غفل عنا الزمان فيه فنعمنا بالإخاء المحض والصفاء الخالص! ومن الذي ينسى أيها الأخ الكريم ربيعه وهو في الخريف، وشروقه وهو في الغروب؟ لقد ابتدأنا في الرواق العباسي ومعنا الشباب والأمل ومحمود، ثم انتهينا إلى مجمع فؤاد ومعنا الشيخوخة والذكرى ولا شيء!