هو نحن الثلاثة. وكنا نعبد الجمال في أي معنى وفي أي صورة، والجمال في حياة أيفاع من طلاب الأزهر لا يرون غير الدمامة، ولا يسمعون غير الفدامة لا يمكن إلا أن يكون حلماً أو خيالاً أو مثالاً أو شيئاً من نحو ذلك، وكنا نعشق الكتب فلم ندع كتاباً في الأدب مطبوعاً ولا مخطوطاً إلا قرأناه أو قلبناه، والمكتبة العربية كانت يومئذ بالنسبة إلينا (الكتب خانة المصرية). وكان محمود أشدنا غراماً بالمكتبات والمخطوطات، فكنا حين ننصرف، طه وأنا، لدراسة الفرنسية ينصرف هو إلى مكتبة الأتراك، أو مكتبة الأزهر، أو دكاكين الوراقين، ينقب عن نوادر الكتب فيستعيرها أو ينسخها أو يشتريها، لذلك كان أعلم الناس بأسماء الكتب وسماتها وشياتها وموضوعاتها ومؤلفيها، وقد ظهر أثر ذلك حينما عمل مغيرا في دار الكتب المصرية فقد انتقد فهارس الدار نقداً قويا عنيفا كان مثار خصومة بينه وبين زملائه. ومحمود كان لا يلاين ولا يهادن إذا كان معه الحق. ولقد كان عمله في وزارة المعارف وفي وزارة الأوقاف نزعاً متصلاً بينه وبين رؤسائه، لأن الوظيفة الحكومية تقتضي صاحبها المصانعة والمهاواة والمساهلة، ومحمود كان مستقيم الطبع فلا يلتوي، شديد الإباء فلا يستكين، قوي الشكيمة فلا ينقاد، حافظ العهد فلا يغضى. من أجل ذلك طلب أن يحال إلى المعاش فأحيل قبل سنه بعشر سنين.
عرفت محموداً في درس النحو، وعرفت طه في درس الأدب، وكان بين المعرفتين شهران أو ثلاثة. كنت أحضر درس النحو الذي يلقيه الشيخ عبد الله دراز في مسجد محمد بك أبو الذهب، وكانت لي بين رفاقي شهرة بصنع الكلام الموزون المقفى، فكان هذا يطلب مدحه في باشا، وذاك بطلب تهنئة لعمدة، وذلك يريد مرثية في قريب. وعلم ذلك محمود فجاءني ذات يوم وأنا في الدرس يشكو إلي أنه صنع تاريخاً لمولود في شطر ولكنه يحتاج إلى واحد ليتم به عدد السنين ١٩٠٤. فنظرت في التاريخ فأعياني أن أجد هذا الواحد، فقلت له أكتب الشطر الأول هكذا:(وبالفرد استعنت لكي أؤرخ) والفرد معناه الله ومعناه الواحد المطلوب. فضعه بين قوسين واحسبه واحداً. أما جزم المضارع فللضرورة، والضرورات ترفع المجرورات. فسر محمود بهذا الحل سروراً عظيماً وصحبني في ذلك اليوم لا نكاد نفترق حتى أثلثنا بطه في درس المرصفي، فتوثقت بيننا عرى المودة، وتصادقنا على المحبوب والمكروه، وتصافينا على القرب والبعد، ومُلِّي كل منا أخويه خمساً وأربعين سنة