الحين لم تكن أدباً مهيأ للقراءة والاطلاع، ولكنها كانت أدباً معداً للتمثيل والمشاهدة. . . ومن هنا لم يجد المترجم العربي حين اطلع عليها كبير نفع ولا غناء، لأن الشروح والملاحظات التي كان يمكن أن تنير له الطريق، لا تتضح إلا أثناء التمثيل أمام جمهور من النظارة، وهذا أمر لم يقدر للعرب أن يروه من قريب أو من بعيد!
وأعقب على هذا كله فأقول: إن المسألة لا تحتاج في رأيي إلى كل هذه الفروض. . . فلو أن الأستاذ الحكيم قد حاول أن يختبر معدن العقلية العربية في ذلك الحين، لوجد أن هذا المعدن كان يستجيب لحرارة التفكير العلمي أكثر مما كان يستجيب لحرارة التفكير الفني؛ ومن طبيعة معدن هذا شأنه أن يسيغ كتاباً لأر سطو وأفلاطون، أكثر مما يسيغ تمثيلية ليوربيد أو سوفوكل!. . .
إن العقليات معادن، والعقلية العربية في عصورها الأولى كانت عقلية جدل ومناقشة، يستهويها ويثير اهتمامها ما يحرك في طبيعتها نزعة الجدل والمناقشة. . . لماذا؟ لأنها كانت تسعى وراء الحقائق، تحاول جاهدة أن تكشف عنها على ضوء من نور العقل وحده دون سواه. . . ومن هنا كان هذا الإغراق في العقليات، الإغراق الذي كاد يستأثر بعناية العرب ويستغرق كل وقتهم وجهدهم وطاقتهم الفكرية. أما التمثلية التي تقوم على الأسطورة، فكان من الطبيعي ألا تستهوي عقلية جبلت على السعي وراء الحقيقة! إنها عقلية تريد أن تناقش وتبحث وتجادل وتقرع الحجة بالحجة وتقيم الدليل على أنقاض الدليل، فأين هذا كله من مجال يقوم العمل الفني فيه على صراع النزعات النفسية والعواطف الإنسانية، وأعني به مجال الأدب التمثيلي عند اليونان؟!
هذا التفسير يمكن أن نجيب به مرة أخرى على الأستاذ الحكيم حين يتساءل في موضع آخر: لماذا لم يوجد التمثيل في الحضارة العربية ولم يعرف؟
لقد أرجع الأستاذ هذا الأمر إلى طبيعة عدم الاستقرار في الوطن العربي إبان عصوره الأولى. . . إن التمثيل في حاجة إلى مسرح، والمسرح في حاجة إلى استقرار، والاستقرار أمر لم تهيئه البيئة للعربي الذي كان يسعى وراء قطرة ماء تلوح له هنا أوهناك!
وإذا كان العرب قد تهيأ لهم في العصرين الأموي والعباسي وما بعدهما أن يحيوا حياة مستقرة، فإن ابتعادهم عن التمثيل كان مرجعه إلى أنهم لا يعدلون بشعرهم العربي شعراً