الذي يضئ لنا من بعيد ينادينا إلى ما فيه خيرنا وخير هذا الناس.
ويخيل إلي أننا نعيش اليوم في عصر بلبلة واختلاط، وهذا شئ قد أصاب أمما كثيرة من قبلنا، فلم يعقها ذلك عن إدراك الغايات التي حرصت على السعي إليها وعلى بلوغها. بيد أن لابد لأمة أرادت أن تخلص من هذه البلبلة أن يتجرد من رجالها ونسائها فئة لا ترهب في الحق سطوة ولا بطشاً ولا اضطهاداً ولا تدخر دون مطلبها جهداً ولا عزيمة، ولا يثنيها إخفاق، ولا تلفتها فتنة، ولا يصفها الفرح بقليل تناله عن الكدح في سبيل ما ينبغي أن تناله.
وقد أراد الله بمصر أن تكون في هذا العصر قدوة العرب ومجتمع أمرهم وكعبة قصادهم، وهذه البلبلة في مصر اشد ظهورا وغلبة منها في غيرها من بلاد العرب، فأخوف مخافة أن تظل مصر غافلة عن شر هذه البلبلة فتعدى سائر العرب بالأسوة والقدوة، فينتشر الأمر انتشاراً يعجز المخلصين أن يلموه. فبين ظهر أنينا اليوم ألوف من الطلاب العرب قد جاءوا من كل قطر لينهلوا من علم مصر، ويعودوا إلى بلادهم يجاهدوا في سبيلها، فإذا أعدتهم هذه البلبلة فسوف يحملونها معهم إلى بلادهم فيفرقوا المجتمع من كلمة أممهم، ويرتكز الأمر حتى يصبح ولا علاج له هذا، وأنت لا تعدم صدى البلبلة في الصحف والكتب والمجلات المصرية التي أخذت تزداد انتشارا واتساعا، فكيف لا يخشى أن يعم هذا البلاء كل بلاد العرب ويتغلغل في نواحيها؟ ويومئذ نصبح طعما للأمم الضارية التي تحيط بنا من كل مكان، وتحد لنا أنياباً عصلا تنهشنا بها يوم يتاح لها أن تنقض على هذه الفريسة التي لا تدفع عن نفسها.
فمن شر هذه البلبلة، ما نرى من سوء تدمير الأحزاب السياسية المصرية، فهي قائمة على نزاع دائم في سبيل الحكم، بكيد بعضها لبعض، ويأكل بعضها بعضا، ولا يرى أحد لأحد حرمة. وتنشئ هذه الأحزاب صحافة يكون هم محرريها التشهير بمن يخالفهم في الرأي والمذهب، فيدلسون الحقائق، ويكتمون الحق، ويفترون على الناس الكذب، ويلون ألسنتهم بالحديث ويحرفون أعمال من يعادونهم تحريفا لئيما مستهجناً، كل ذلك ابتغاء مرضاة رؤساء الأحزاب وأصحاب الأمر فيها. هذا على أن هذه الأحزاب قد نشأت أو أنشئت بغير أهداف مبينة للناس تعاهدهم على أن تسعى إليها، وبغير برنامج لإصلاح هذه الأمة التي لم