عاد إلى مجلسه في (الكنتنتال) أديب العربية وخاتمة أدبائها المحققين الأستاذ إسعاف النشاشيبي. ومجلسه حيث كان متعة للعقل والقلب واللسان: فيه سلاقة النديم، وريحان اللبيب، ونقل الأديب، ونوادر اللغوي، وطرف المؤرخ. وقد زار الأستاذ النشاشيبي دمشق في مهرجان المعري ونزل بأريان بالأس فنزل معه الفضل والعلم وما يصحبهما من كل أولئك. وحضر مجلسه فيه الأستاذ صلاح الدين المنجد فقال يصفه:
(هذا الأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي إنه نسيج وحده في كل شيء: في أسلوبه المتين، وفي حديثه المبين، وفي إلقائه النادر، وفي سعة علمه، وكثيرة محفوظة. فلا يشابهه أحد، ولا يجازيه أحد
كانت حلقته في الأريان بالاس مهوى نفوس الذين يتذوقون الفصاحة، ويرغبون في سماع محاسن العربية. ينفض أناس، ويقبل أناس، وهولا يمل، يسمعهم من طريف أدبه، ويروي ظمأهم من روائع علمه، ويأسرهم بتهذيبه وتواضعه
قابلته بعد عودته، أساله عن صحته، أملاً ألا تكون هذه الرحلة الطويلة المتعبة المستعجلة قد أضرت به، فأجابني فرحاً:
- لقد كشفت سراً. . . في معرة النعمان!
- سر؟
- نعم، سر عظيم. . . ما كنا نفطن غليه لولا إن رأينا بلدة أبي العلاء
- وما هذا السر؟
- كان أبو العلاء منقطعاً عن أكل اللحم، وكان يمن علينا بذلك، فلما رأيت أن في المعرة التين، التين الحلو، المشوب بالعسل المصفى، الكبير الحجم، وأن فيها العدس المغذي، اللذيذ المفيد، قلت: ما اللحم أما تين المعرة وعدسها؟ أما لو كان لي معدة قوية كمعدة أبي العلاء وكنت في المعرة آكل من تينها أطعم من عدسها أذن لآليت إلا أذوق ما حييت لحماً. .!
فلا يمن علينا أبو العلاء. . . فقد كشفا السر. . .!
ثم أطرق وقال: الحق أن أبا العلاء شيء عظيم. لقد أحب الحياة، وود لو عاش ألفاً من السنين. وكان متفائلاً كأعظم المتفائلين. وكان يكره الموت إلا موت الأبطال الخالين. وكان مجنوناً. . . جن بالقرآن وجن باللغة العربية، فعرف من شواردها، وفصيحها، وصرفها،