وهذا التقسيم يشهد بتفوق هذا الذهن العبقري وطرائقه وقوة تدليله وجدله. وأجود هذه الفصول (الفصل الثالث) وهو خاص بالدولة والملك وخواصهما مبيناً أن للملك طبائع وللدولة أعماراً كالأشخاص، فهو يقدر لها ثلاثة أجيال في الغالب، ويقدر الجيل بأربعين عاماً متأثراً في هذا التقدير بما ورد في القرآن الكريم عن بني إسرائيل حين فقدوا عصبيتهم وكانوا عاجزين فعاقبهم الله بالتيه في قفار سيناء أربعين سنة ليخلق منهم جيلاً جديداً يقوى على المطالبة والتغلب. وفي هذا الفصل تبدو نظرياته الاجتماعية وتحليله للمجتمع، كما يدل ذلك على براعة ذهنه. ثم يتناول الدولة وتحولها من البداوة إلى الحضارة في الفصل الرابع، وبيان أطوارها المختلفة، وأثر الموالي والمصطنعين في هذا التطور. ثم يتناول الملك والإمامة والخلافة واختلاف الآراء في شأنهما ومذاهب الشيعة والخطط الدينية من القضاء والعدالة والسكة، ثم الوزارة ودواوين الأعمال والجباية والرسائل والشرطة وقيادة الأساطيل ورسوم الملك والحروب ومذاهبها والمكوس ونظم التجارة، ثم يتحدث عن البلدان والأمصار ونشأة المدن واختلاف ظروفها من خصب ورفاهية وجدب وقفر وتفاوت في الغلات والصناعات واللغة
من هذا كله تتبينون أن ابن خلدون مخترع هذا العلم وصاحب الفضل الأول في ابتكاره وهو ما يسميه (بالعمران والاجتماع البشري) فقد أفاض في هذه النظريات مصحوبة بالشواهد مترابطاً بعضها ببعض، وكل ما خلفه أسلافه لمحات مبعثرة ضئيلة. على أن هذا العلم الذي استحدثه ابن خلدون اتخذ من حيث مادته وموضوعاته مكانة بين علومنا الحديثة في الاجتماع وفلسفة التاريخ والنظام السياسي والاقتصاد السياسي. وفي دائرة المعارف الإسلامية المترجمة إلى العربية ما يؤيد ذلك
أما أسلوبه فخاص يتميز به ابن خلدون من غيره في العرض والتنظيم، كما أن مقدمته تمتاز بطرافة موضوعاتها وروعة أسلوبها الأدبي الذي جمع بين البساطة وقوة التعبير، ودقة التدليل، وحسن الأداء والتناسق. والمقدمة مثل حسن للفصاحة المرسلة والغرض الشائق المنظم؛ وذلك على الرغم مما يطرأ أحياناً من ضعف في التأليف وغرابة في التعبير وشذوذ في اللفظ يرجع إلى نشأة ابن خلدون البربرية. وأسلوبه في تاريخه أقل درجة من أسلوبه في مقدمته. على أن لهذه المقدمة تأثيراً قوياً في الكتابة في أوائل العصر