فتقوم لهم دول تغلب عليها، وتظهر لهم حضارات لا تذكر الحضارات التي سبقتها بجانبها. وقد صدق الله تعالى وعده، فأخذ التوحيد يقوي شيئاً فشيئاً من عهد قيام دولة اليهود في فلسطين، وجعل يناضل الوثنية ويغزوها في معاقلها، وقد رفع لواءه في ذلك النضال الوثنية ويغزوها في معاقلها، وقد رفع لواءه في ذلك النضال أولئك الأئمة الذين اختارهم الله تعالى لهداية البشر، وكان أعظمهم في ذلك الجهاد الشاق ثلاثة لا تزال آثارهم فيه باقية إلى عصرنا، وهم: موسى صاحب الشريعة اليهودية، وعيسى صاحب الشريعة النصرانية، ومحمد صاحب الشريعة الإسلامية، وأتباع هذه الشرائع هم الظاهرون الآن في الأرض، وحضارتهم هي الحضارة العليا، وهي المثل الأعلى في عصرنا
وقد بلغت الحضارة اليهودية أوج مجدها في عهد داود وسليمان عليهما السلام، فارتقت فيها العلوم والآداب وتقدمت الصناعة تقدماً عظيماً، ونهضت التجارة نهوضاً كبيراً. وكان لسليمان عليه السلام أساطيل عظيمة تمخر عباب البحار، حتى وصلت غرباً إلى بلاد الأندلس، وجنوباً إلى بلاد اليمن وجنوب أفريقية. وقد لمعت سماء فلسطين في عهده بما أقامه فيها من المدن العظيمة، وبما شيده فيها من بيوت العبادة، وبما رفعه فيها من الصروح والقصور الجميلة، وهو مع هذا رسول من رسل الله الكرام، وإمام من أولئك الأئمة الذين بشر الله بهم في أواخر أيام بني إسرائيل بمصر
ولاشك في أن ظهور هذا كله في عهد سليمان أعظم رد على أعداء التوحيد، لأنه يبين خطأهم في ظنهم أن التوحيد يجافي الحضارة وينأى عن مظاهر الجمال التي تمتاز بها عن البداوة، ولا يتسع لها صدره، كما يتسع لها صدر الوثنية
وفيه أيضاً أعظم رد على ألئك المتنطعين في الدين، وهم الذين ينفقون في ذلك الظن الخاطئ مع أعداء التوحيد، فيظنون أن الدين ليس إلا خشونة وتقشفاً، وأن المثل الأعلى فيه هو الزهد في زينة الحياة الدنيا، لا يفرقون في ذلك بين الزينة التي أحلها الله تعالى وبين الزينة التي حرمها على عباده
وقد نوه القرآن الكريم بمظاهر الحضارة التي تمت في عهد داود وسليمان في آيات كثيرة منه، فمن ذلك قوله تعالى في الآيات (١٠، ١١، ١٢، ١٣) من سورة سبأ (ولقد أتينا داود منا فضلاً، يا جبال أوبي معه والطير، وألنا له الحديد، أن عمل سابغات وقدر في السرد